و از دعاهاى آن حضرت (ع) است در يارى خواستن براى اداى دين
شرح:
دعاوه فى المعونه على قضاء الدين
آثار الدين على قرار حياه المدين و استقراره:
للدين فى حياه كل انسان اكثر من مشكله، تثقل كاهله، و تقلق فكره، و تشغل همه، و تربك او ضاعه، و قد تودى به الى حاله قانونيه تحجز حريته، لذلك كان تاثيره فى واقع الفرد او الجماعه كبيرا على الصعيد السلبى، فالفرد اذا كان مدينا فانه يقع تحت تاثير الهم فى الليل، فيقتل طمانينته، و يسلب منه هدوءه، و يعيش تحت تاثير الذل فى النهار عند ما تلاحقه مطالب الدائنين، و تضغط عليه مشاعر
الناس من حوله عند ما يماطل فلا يدفع، و هو القادر على ذلك، و قد ينتهى به الامر الى ما لا تحمد عقباه.
و المجتمع اذا كان مدينا لمجتمع آخر، كما هى الدوله الصغرى عند ما تستدين من دوله كبرى، فقد تسقط تحت ضغط هذه الديون بالمستوى الذى قد تفقد معه حريتها السياسيه او الامنيه او الاقتصاديه او الاجتماعيه من خلال الشروط المفروضه عليها فى اتفاق الدين، مما يفرضه القادرون على العاجزين، و الكبار على الصغار، من خلال فقدان التوازن فى القوه فى جميع مستوياتها، و هكذا تفقد الدول عزتها و استقراراها و حريتها و قوتها.
و اذا كان الدين ضروره فى بعض الحالات من خلال ضغط الحاجات الضروريه التى لا يتحمل الانسان الفرد او المجتمع فقدانها و الحرمان منها، فانه قد يكون فى بعض الحالات ترفا او حاجه كماليه، او طمعا غريزيا، مما يمكن للانسان الاستغناء عنه، و الصبر على حرمانه، عند ما يدخل فى المقارنه بين ما يحصل عليه من الخير، و ما يقع فيه من الشر، ليجد بعين عقله ان الشر هو الاكبر و الاشد خطرا فى نتائجه القاسيه على حاضره و مستقبله معا فى الدنيا، عند ما يفكر فى الدنيا، و فى الاخره عند ما يتصل الموضوع بمشاكل المصير فى الاخره.
و قد جاء الحديث عن رسولالله (ص): «لا هم الا هم الدين»، فى التعبير عن الوضع النفسى على مستوى ما يعانيه المدين من الهم. و قد جاء عنه فى روايه الامام الصادق (ع) قال: «قال رسولالله (ص): الدين ربقه الله فى الارض، فاذا اراد الله ان يذل عبدا وضعه فى عنقه»، و جاء الحديث عن على (ع)، فى روايه الامام الصادق (ع) عنه قال: «قال على (ع): اياكم و الدين فانه مذله بالنهار و مهمه بالليل و قضاء فى الدنيا و قضاء فى الاخره».
و قد ذهب بعض العلماء و هو ابوالصلاح الى تحريمه، و لكن الاكثر على كراهته من دون حاجه. و قال العلامه شهابالدين بن فهد فى المهذب البارع: «اياك ثم اياك و التجرى على الدين، فانه مجلبه للهم و مشغله للذمه، و مشتت للفكر، و هو فى الدنيا
مذله و فى الاخره تبعه».
و حمل الى مسجد النبى (ص) ميت فقال: «على صاحبكم من دين؟ فقالوا: نعم درهمان، فقال (ص): صلوا على صاحبكم، فقال على (ع): هما على يا رسولالله، و انا لهما ضامن، فقام رسولالله (ص) فصلى عليه، ثم اقبل على على (ع) فقال: جزاك الله عن الاسلام خيرا و فك رهانك كما فككت رهان اخيك».
و قد جاء فى رياض السالكين انه ورد رخصه فى اباحته اذا كان له ولى يقضيه او مال يودى عنه، و الافضل تركه و الطلب الى الله تعالى بالغنى عنه بالتسبب و التمعيش، ففيه مع تفريغ الذمه من حقوق المخلوقين و الراحه من الفكر، مواساه الصالحين و الفوز بثواب الكادين حيث يقول (ع): «الكاد على عياله كالمجاهد فى سبيل الله». و قال (ع): «من بات كالا من طلب الحلال بات مغفورا له».
و قال العلامه الحلى فى التذكره: و تخف الكراهه مع الحاجه، و ان اشتدت زالت، و لو خاف التلف و لا وجه الا الاستدانه، و جبت.
قال الرضا (ع): «من طلب هذا الرزق من حل ليعود به على عياله و نفسه كان كالمجاهد فى سبيل الله، فان غلب عليه فليستدن على الله عز و جل و على رسوله ما يقوت به عياله، فان مات و لم يقضه كان على الامام قضاوه، فان لم يقضه كان عليه وزره، ان الله تعالى يقول: (انما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المولفه قلوبهم و فى الرقاب و الغارمين) (التوبه: 60) فهو فقير مسكين مغرم».
و اننا نرى فى ذلك كله ان الدين، فى التخطيط التربوى للانسان المسلم، يمثل عنوانا سلوكيا سلبيا لا ينبغى للانسان المسلم اللجوء اليه الا فى الحاجه الضروريه، و على الدوله ان تتحمل وفاءه اذا مات الانسان و لم يستطع ان يقضيه فى حياته.
و قد ورد فى بعض الاحاديث استحباب ابراء الدائن للمدين، اذا مات معسرا، فعن الصادق (ع): «ان له بكل درهم عشره اذا حلله، فاذا لم يحلله فانما له درهم بدل
درهم».
و فى هذا الدعاء حديث عن الجانب السلبى من الدين، فهو يذهب بهاء الوجه و نضارته، بحيث يتحول الى وجه بال ممزق و يودى الى الحيره الذهنيه و التشعب الفكرى، بحيث لا يستقر الانسان معه على حال، و يصبح الشغل الشاغل له، فيشغله عن كثير من مهماته، و يملا قلبه بالهم و عقله بالفكر، و ليله بالسهر و الشغل النفسى المعقد، و يجعل الانسان فى الذل فى الحياه، و فى المسووليه بعد الممات، و بذلك يعيش الانسان معه فى حصار ذهنى و روحى و علمى فى الدنيا و الاخره.
بعض الاسباب التى تدعو الى الدين:
ثم يلتفت الدعاء التفاته مهمه ليعالج الظروف التى قد تدفع بالانسان الى الاستدانه لانها قد تعرضه للسقوط الاقتصادى الذى يجعله عاجزا فى موارده امام حاجاته الملحه.
فهو يحدثنا عن الاسراف الذى يبتعد به الانسان عن حد الاعتدال، فلا يبالى بالنتائج القاسيه السلبيه من خلال ذلك، و عن الازدياد فى المصارف التى لا يقف الانسان فيها عند الحدود الطبيعيه، كما يحدثنا فى الجانب الاخر عن العطاء الصادر عن نفس طيبه، و روح كريمه، و عن الاقتصاد الذى يجعل لكل شىء حدا لا يتجاوزه، و لكل امر قدرا يقف عنده فلا يتعداه، فلا يزيد عن الحد المتعارف فى مصارفه، و لا يضيق على نفسه فى حاجاته على هدى قوله تعالى: (و الذين اذا انفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواما) (الفرقان: 67). و فى ضوء هذا و ذاك يتحرك الانسان فى ماله ليخطط و يجعل للامور مقاديرها الدقيقه، و موازينها العادله، فيضع لكل مصرف حدوده فى الكم و النوع، فلا يبذر فى الانفاق فى ما لا ينبغى له انفاق المال فيه. و نحن نعرف ان الابتعاد عن الاسراف و التبذير، و الاقتصاد فى الانفاق و الاعتدال فى العطاء، يقللان من فرص الحاجه الى الدين، لان الحاجات تاخذ مجالها فى الكميه او فى النوع من دون حاجه الى زياده او تعرض لاى حرمان، الا فى الحالات الصعبه غير الطبيعيه التى قد تحدث كنتيجه للوضع الخارج
عن حدود التوازن للاشياء.
و ينطلق الدعاء فى اجواء الحديث عن المال فى مصادره و موارده، لان المشكله التى تواجه بعض الناس هى المصادر المحرمه للمال التى قد يبتعد فيها عن الحدود الشرعيه، و الانفاق المحرم الذى يدفع الانسان الى ان يصرف ماله فى ما حرمه الله من اللهو المحرم و الاكل و الشراب المحرمين، و الرشوه فى الحكم، و اعانه الظالمين و المجرمين، و اقامه الظلم و تقويته، و اسقاط الحق و اضعافه، و امثال ذلك، فان الله يريد للانسان ان ينفتح فى وعيه على ان المال مال الله الذى يوتيه الانسان ليحركه فى ما احبه الله، و يبتعد به عما يسخطه، فلا حريه له فى الحصول عليه بالسبب الحرام او فى انفاقه فى المورد الحرام.
و قد ورد فى بعض الاحاديث ان الانسان يسال فى يوم القيامه عن ماله مما اكتسبه، و فى ما انفقه، فقد اراد الله المال لتركيز ارادته فى اقامه الحياه على الحق لا على اساس الباطل، و لهذا فقد احب جمع المال من الحلال ليواجه به مسوولياته الشرعيه فى نفسه و فى الناس، و اعتبره شانا من شوون الاخره لا من شوون الدنيا، فقد جاء فى الحديث عن الامام جعفرالصادق (ع) انه قال: «لا خير فيمن لا يحب جمع المال من حلال، يكف به وجهه، و يقضى به دينه، و يصل به رحمه». و عنه. (ع): «نعم العون الدنيا على الاخره». و عن عبدالله بن يعفور، قال رجل لابى عبدالله- جعفرالصادق (ع): «و الله انا لنطلب الدنيا و نحب ان نوتاها، فقال: تحب ان تصنع بها ماذا؟ قال: اعود بها على نفسى و عيالى و اصل بها و اتصدق بها و احج و اعتمر، فقال (ع): ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الاخره».
و فى ضوء هذه الكلمات نفهم القيمه الاسلاميه فى المال، انه ليس ضد القيمه فى نفسه، بل هو شان من شوون الانسان فى حركه حاجاته، فيختلف حاله تبعا لاختلاف الغايه التى يريد تحقيقها من خلاله، الامر الذى يجعل القيمه فى الغايه، لا
فى طبيعته الذاتيه، فاذا كانت الغايه فيه هى الانسجام مع خط الله فى ما يرفع به درجات الناس فى الاخره مما يقربهم اليه، فان القيمه تكون فى الخط الايجابى، اما اذا كانت الغايه هى الخضوع لاهواء النفس و شهواتها و الاستغراق فى اجواء اللذه و الكبرياء فانها تكون فى الخط السلبى.
و هذا ما توحى به الايه الكريمه فى قصه قارون: (ان قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم و آتيناه من الكنوز ما ان مفاتحه لتنوء بالعصبه اولى القوه اذ قال له قومه لا تفرح ان الله لا يحب الفرحين. و ابتغ فيما آتاك الله الدار الاخره و لا تنس نصيبك من الدنيا و احسن كما احسن الله اليك و لا تبغ الفساد فى الارض ان الله لا يحب المفسدين) (القصص: 77-76).
نظره الاسلام الى المال و هدفه:
و يقف الدعاء امام حالات الانحراف الانسانى التى قد تحدث من خلال النوازع الذاتيه السلبيه فى مواجهه القيم الاخلاقيه، امام مساله جمع الانسان للمال و ملكيته له، فقد يشعر بان حجم شخصيته يتمثل فى حجم ماله، فترتفع درجته تبعا للدرجه الاقتصاديه التى يتمتع بها فى المستوى الاقتصادى، و تتضخم ذاته فى نطاق ضخامه ماله، فينتفخ زهوا و خيلاء كلما كثر ماله، و يتحرك فى خط البغى على الناس و العدوان عليهم، فى الاستكبار المالى، لانه يرى لنفسه الحق عليهم فى تحقيق مصالحه، و ارواء شهواته، و احترام حقوقه و حمايه مواقعه، و لا يرى لهم حقا عليه فى قضاياهم و امورهم و مصالحهم و مواقعهم، كما لو كانوا عبيدا له، و تطغى به نفسه من خلال طغيان ماله فى كثرته و امتداداته، فيتحول الى طاغيه و لا يقف عند حدود الشريعه فى ما حدده الله له مما يفعله او يتركه، فليس هناك الا ذاته، و لا قيمه للناس من حوله الا كما هى قيمه الذباب و الهوام و الحشرات، فهم الخاضعون له فى اموالهم و اعمالهم و علاقاتهم و انتماءاتهم، و هم الادوات التى يسخرها فى تحقيق شهواته و لذاته و مراكز قوته، فلا تملك لنفسها ان تريد او لا
تريد الا من خلال ارادته الطاغيه و نفسيته الباغيه.
ان الله يريد للانسان ان ينظر الى المال فى دائره الحاجه لا فى دائره القيمه، لانه لا علاقه له بالذات، بل هو شىء يعيش فى خارجها، لتكون القيمه فى طبيعه حركته فيه و انفتاحه عليه و تصرفه فيه، و لذلك فان هذه النظره الواقعيه تفرض عليه ان لا يدخل ماله فى عقله و قلبه و كل ذاته، و لا يغير نظرته الى الواقع من خلاله، الا بالمقدار الذى يحدد مسووليته فيه، و لا سيما ان العنوان القرآنى للمفهوم الانسانى فى الملكيه يمثل خلافه الانسان على المال و وكالته فيه من قبل الله، ليتصرف فيه طبقا للبرنامج الالهى فى تحريك المال فى حاجات الانسان الفرديه و الاجتماعيه من دون بغى و لا طغيان، و هذا هو قوله تعالى: (و انفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) (الحديد: 7) كما انه- فى البعد الحقيقى- مال الله الذى آتاه الانسان لينفق منه على المحتاجين و يوتيهم منه كما آتاه الله، فهو ليس مال الانسان ليشعر بحريته فى انفاقه، بل هو مال الله الذى حدد له مصارفه و موارد انفاقه، تماما كما هى الامانه التى ياتمن صاحبها الناس عليها، و يحدد لهم مواردها فى الانفاق، و هذا هو قوله سبحانه: (و آتوهم من مال الله الذى آتاكم) (النور: 33).
و هذا هو المفهوم الذى يوحى اللانسان بالاتزان فى ملكيته للمال، لانه لا يتصل بذاته، بل يتصل بمسووليته، مما يجعل منه عبئا ثقيلا عليه فى دائره المسووليه، لا درجه عاليه فى دائره الامتياز و العلو الذاتى، فهو واقع فى خط الاختبار و الابتلاء، لا فى خط الكرامه و القيمه الذاتيه، و هذا هو قول تعالى: (فاما الانسان اذا ما ابتلاه ربه فاكرمه و نعمه فيقول ربى اكرمنى. و اما اذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربى اهاننى. كلا بل لا تكرمون اليتيم. و لا تحاضون على طعام المسكين. و تاكلون التراث اكلا لما. و تحبون المال حبا جما) (الفجر: 20-15).
المال ليس اساسا فى تحديد العلاقات الانسانيه:
و يتحدث الدعاء- فى نطاق الموضوعات الاخلاقيه فى العلاقات الانسانيه- عن
الموقف الذى يتخذه الانسان من العلاقه بالفقراء، سواء كان هذا الانسان فقيرا او غنيا، و ذلك من خلال الحاله النفسيه الطبيعيه التى قد يندفع معها الانسان لا شعوريا فى احتقار الفقر و الفقراء، لان النفس تنفر من الفقر و تبغضه، من خلال الايحاء الداخلى بالخوف من تاثيره عليهم، و لو كان ذلك بطريق العدوى فى ما يمكن ان يثيره الوهم فى الشعور الذاتى، او من خلال القيمه المضاده التى يتداولها المجتمع فى علاقاته و اوضاعه مما قد يسىء للانسان الذى يرتبط بعلاقه مع الفقراء، فينظر الناس اليه من خلال نظرتهم الى اصحابه القريبين اليه باعتباره جزءا من مجتمعهم، و ربما تتاثر قضاياه العامه بذلك من خلال علاقتها بالواقع الذى يعيش فيه، و الساحه التى يتحرك فيها، و هذا هو ما نلاحظه فى حديث الله عن قوم نوح فى نظرتهم الى اتباعه التى انعكست سلبا على موقفهم منه و من رسالته، و ذلك فى قوله تعالى: (و ما نراك اتبعك الا الذين هم اراذلنا بادى الراى و ما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين) (هود: 27).
فنحن نلاحظ انهم جعلوا علاقه النبى نوح بالفقراء الذين اتبعوه، اساسا للموقف المضاد منه، لان ذلك يعنى ان موقعه الرسالى لا يتناسب مع موقع الطبقه العليا المميزه من المجتمع، بل يناسب الطبقه السفلى المنحطه التى لا يمثل التزامها باى خط قيمه فى مضمون الالتزام و فى موقعه الريادى، لان تفكيرهم لا يرقى الى المستوى الرفيع فى العمق و الصواب، باعتبار انهم لا يملكون الثقافه الواسعه و التجربه الغنيه و النظره العميقه، فهم يتحركون فى السطح من الحياه لا فى العمق، و فى الثقافه الضيقه و التجربه المحدوده، الامر الذى يجعلهم فى الموقع الثانوى لا فى الموقع المتقدم، فكيف يمكن ان يكونوا الطليعه فى حركه الرساله و الرسول، و كيف يمكن للفئه الطليعيه فى المجتمع ان ينضموا اليهم مما تفقد الساحه معه توازنها، و لذلك فانه يمثل نقطه سلبيه فى الموقع الذى يدعيه النبى لنفسه و لرسالته، لانه من غير الممكن- من وجهه نظر هولاء- ان يتخذ الله مثل هولاء اولياء و مقربين اليه مع ان موقعهم هو فى المنطقه الخلفيه من مواقع المجتمع العامه و الخاصه.
و لكن الله علم نوحا نبيه ان يرفض هذا المنطق، جمله و تفصيلا، فقال لهم- فى ما
حكاه الله عنه- فى قوله تعالى: (و ما انا بطارد الذين آمنوا انهم ملاقو ربهم و لكنى اراكم قوما تجهلون. و يا قوم من ينصرنى من الله ان طردتهم افلا تذكرون) (هود: 30-29).
و يتابع الحديث عنهم فيقول- فى قوله تعالى: (و لا اقول للذين تزدرى اعينكم لن يوتيهم الله خيرا الله اعلم بما فى انفسهم انى اذا لمن الظالمين) (هود: 31)، فقد اكد ميزان القيمه فى المنطق الرسالى الالهى، ان هولاء هم الذين ينطلقون فى حركتهم فى الحياه من الفكره التى توحى لهم بانهم سيلاقون الله ربهم ليقدموا اليه تقريرا عن اعمالهم التى قاموا بها فى الدنيا، و حسابا عن كل امورهم و اوضاعهم فى دوائر الاوامر و النواهى ليقتربوا من ساحه طاعته، و ليبتعدوا عن مواقع معصيته، فيعبدوه طمعا فى ثوابه و يبتعدوا عن الشرك بعبادته خوفا من عقابه، و هذا هو الاساس فى القيمه عند الله الذى اكد فى كتابه فى الايه الكريمه: (ان اكرمكم عند الله اتقاكم) (الحجرات: 13)، لان كل ما يتمايز به الناس هو خلق الله، و من رزق الله، فكيف يتميزون به عندهم، من دون ان يكون لهم اى دور فيه، اما التقوى فهى النتيجه الطبيعيه للايمان القوى و الاراده الخيره، و الموقف القوى الثابت على حدود الله، و مواقع امره و نهيه، و هذا هو الشىء الذى ينتسب الى الانسان و يميزه عن غيره، فى ما اوكل الله اليه امره و جعل له الحريه فى تقريره من خلال الحريه الاراديه فى تقرير مصيره.
و هذه هى النظره التى كان ينظر بها بعض الناس فى عهد الدعوه الاولى، فى الحديث الذى جاءت به السيره عن حابس التميمى، و عيينه بن الحصين الفزارى، و عباس بن مرداس، و ذووهم من المولفه قلوبهم، فوجدوا النبى (ص) جالسا مع اناس من ضعفاء المومنين، فلما راوهم حوله (ص)، حقروهم، فاتوه (ص) فقالوا: يا رسولالله لو جلست فى صدر المجلس و نفيت عنا هولاء و ارواح جبابهم- و كانت عليهم جباب من صوف- جالسناك و اخذنا عنك، فقال (ص): ما انا بطارد المومنين. قالوا: فانا نحب ان نجعل لك منا مجلسا تعرف لنا فيه العرب فضلنا، فان وفود العرب تاتيك فنستحى ان ترانا مع هولاء الاعبد- يعنون فقراء المسلمين- فاذا نحن
جئناك فاقمهم عنا، فاذا نحن فرغنا، فاقعد معهم ان شئت، قال: (ص): نعم. قالوا: فاكتب لنا بذلك كتابا، فدعا بالصحيفه و بعلى (ع) ليكتب و نحن قعود فى ناحيه، فنزل جبرئيل بقوله تعالى: (و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداه و العشى يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شىء و ما من خسابك عليهم من شىءفتطردهم فتكون من الظالمين) (الانعام: 52)، فرمى (ع) بالصحيفه و دعانا فاتيناه و جلسنا عنده، و كنا ندنو منه حتى تمس ركبتنا ركبته، و كان يقوم علينا اذا اراد القيام، فنزلت: (و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداه و العشى يريدون وجهه و لا تعد عيناك عنهم تريد زينه الحياه الدنيا و لا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه و كان امره فرطا) (الكهف: 28)، فترك القيام عنا الى ان نقوم عنه، و قال: الحمد لله الذى لم يمتنى حتى امرنى ان اصبر نفسى مع قوم من امتى، معكم الحياه و معكم الممات.
و هكذا نجد ان الذهنيه الاستكباريه تبقى مع كل مرحله تاريخيه، لتجد هناك جماعه من الناس يفكرون بالطريقه التمييزيه بين الناس على اساس المجتمعات عن بعضها البعض على اساس الفقر و الغنى، و لكن الاسلام يرفض ذلك كله من حيث المبدا، لان القضيه التى تفرض نفسها على الواقع الانسانى، هى ان الخصائص الانسانيه، فى العقل و العلم و الصفات النفسيه المتنوعه و التقوى، هى التى تميز شخصا عن آخر من حيث النظره الى هذا الانسان بطريقه تختلف عن النظره الى الانسان الاخر، لان ذلك هو معنى الاستغراق فى الداخل الانسانى، لا فى الخارج عنه، اما القيمه عند الله، فهى ارتباط الانسان به روحيا و فكريا و عمليا، فهذا هو ميزان القرب منه، و قد يكون للعلم دور فى الوصول الى هذا المستوى الروحى او ذلك، كما ان للعقل دوره الكبير فى ذلك، مما يجعل التفاضل بالعلم و العقل اساسا للتفاضل فى التقوى، و لذلك فلا تنافى بين ان يكون للتقوى دور التفضيل فى الكرامه الالهيه للانسان و بين ان يكون للعلم او العقل مثل هذا الدور، كما فى قوله تعالى: (قل هل يستوى الذين يعلمون و الذين لا يعلمون انما يتذكر اولوا الالباب) (الزمر: 9).
فان الجهل الناشىء عن فقدان العقل الواعى و المعرفه الواسعه هو الذى يودى الى الكفر و الشرك، و لذلك عبر الله عن المشركين و الكافرين بانهم «الذين لا يعلمون» و لذلك فان كل الصفات الانسانيه التى تنتج الوعى فى طبيعته و نتائجه، تتكامل فى تكوين الوعى الدينى الذى يفتح النفس على الايمان بالله، و يهدى الناس الى الصراط المستقيم فى الفكر و الاراده و العمل، فلا علم بدون عقل، و لا تقوى بدون عقل، و لا حياه بدون تقوى فى الالتزام بالمسووليه فى الوجود الانسانى كله.
و فى ضوء ذلك، تتحرك العلاقات الانسانيه فى لقاء الناس على محبه الله و على دينه بعيدا عن كل حاله طارئه، او اى شىء مما يعيش خارج حياتهم، و بذلك لا يتعقد الانسان المومن من صحبه الفقراء، بل قد يجد نفسه من موقع المحب لهم، لانه يجد فيهم البساطه و الطيبه و الصفاء، كما انه يحقق لنفسه رياضه النفس و تحليتها بالتواضع و التذلل و القناعه بما اعطاه الله من متاع الدنيا و حطامها، و الابتعاد عن التعالى و الاستكبار و الجاه و الترفع على الناس، و نحو ذلك من الامور التى تربط الانسان بانسانيته، و تفتح روحه على الله، لان الروح المثقله بزخارف الدنيا و مطامعها لا تستطيع الارتفاع الى الاعالى فى رحاب الله، لان ما يثقلها سوف يشدها الى الاسفل، كما ان مجتمع الفقراء هو مجتمع الاكثريه، لان الاغنياء هم الاقل عددا، كما ان الفقراء هم المنتجون، باعتبار ان الاغنياء هم الذين يملكون المال ليقدم الفقراء العمل فى مقابل ما يمنحونهم اياه، لان الحياه قامت على سواعد الفقراء، بينما يقوم الاغنياء باستغلالهم من خلال الفرص الكثيره التى استطاعوا فيها الحصول على المال الكثير بالحلال و الحرام، بينما لم يستطع الفقراء الحصول على بعضها فضلا عن الكثير منها، و لذلك فان صحبه الفقراء تمثل الصحبه التى تزيد الانسان من خبراتهم و تجربه من تجاربهم، و قدره على تحمل الصعاب، و صبرا على الحرمان، و تمردا على الياس، و انفتاحا على آفاق الحياه كلها بحلوها و مرها، و ليونتها و قسوتها، و هشاشتها و صلابتها، و حركه و اعيه فى توجيه الاحلام نحو الواقع و الابتعاد عن الخيال، لان ذلك هو الذى يربط الانسان بالواقعى من الامور، و يبتعد به عن اوهامها. ان للصحبه فى الاسلام فلسفه تتصل بالمعرفه تاره
و بالقدوه اخرى، فاذا كان الصاحب يملك المعرفه، فان ذلك سوف يحقق لصاحبه المزيد مما يملا فكره علما يضىء له ظلام حياته، و اذا كان متميزا بالصفات الطيبه و العمل الصالح فانه سوف يعطى صاحبه الصوره الحلوه التى تجتذبه الى محاكاتها و الاقتداء بها، و قد جاء فى قول الشاعر:
صاحب اخاثقه تحظى بصحبته
فالطبع مكتسب من كل مصحوب
و الريح آخذه مما تمر به
نتنا من النتن او طيبا من الطيب
و قد ورد فى الحديث ان الله اوحى الى نبيه محمد (ص) ليله المعراج: «يا احمد، ان المحبه لله هى المحبه للفقراء و التقرب اليهم، قال: يا رب و من الفقراء؟ قال: الذين رضوا بالقليل، و صبروا على الجوع، و شكروا على الرخاء، و لم يشكوا جوعهم و ظماهم، و لم يكذبوا بالسنتهم، و لم يغضبوا على ربهم، و لم يغتموا على ما فاتهم، و لم يفرحوا بما آتاهم».
و كان من دعاء النبى محمد (ص): «اللهم احينى مسكينا، و امتنى مسكينا، و احشرنى مع المساكين».
و كان على بن الحسين (ع)- صاحب الدعاء- كثير المجالسه للفقراء، حتى قال له نافع بن جبير: «انك تجالس اقواما دونا، فقال له- عليهالسلام-: انى اجالس من انتفع بمجالسته فى دينى».
اما الحديث- فى الدعاء- عن حسن الصبر على الفقراء، فالمراد به- ظاهرا- الانفتاح عليهم من موقع الحاله النفسيه المنبسطه على جميع امورهم و قضاياهم، فلا يتعقد من النظره الحانقه التى قد تواجهه من الناس الذين يقفون فى الدرجه العليا من السلم الاجتماعى، و لا يشعر بالمهانه من ذلك، بل يرى فى صحبتهم سمو انسانيته، و صفاء روحه، و روحيه حياته، من دون ان يجد فيها شيئا من التكلف و التضحيه التى قد يحتاج الانسان معها الى نوع من مجاهده نفسه، و مغالبه مزاجه.
هذا من جهه، و من جهه اخرى، فقد يكون الجو الخانق، او الساحه الضيقه، سببا فى تعقيد اخلاقهم، و ارتباك اوضاعهم، و اثاره للجزئيات الصغيره من امورهم، مما قد يبتعد عن الاخلاق العامه، و الاوضاع المنفتحه، و القضايا الكبرى التى اعتاد عليها الانسان فى تربيته و حياته العامه و الخاصه، فيكون فى الانسجام معهم، و تحمله لهم، صعوبه بالغه، و مشقه شديده، لابد من الصبر عليها ببذل الجهد على اخضاع مزاجه لذلك، و ربما كان ذلك جزءا من الخطه الاسلاميه الاخلاقيه فى الصبر على مصاحبه من صاحبه، و مخالطه من خالطه، مما قد يخالف مزاجه، او يبتعد عن وضعه او يسىء الى بعض مصالحه، فيبتسم لهم فى اشد حالات الحزن، و ينطلق معهم فى ساحات الضيق، و يعطيهم فى حاله الشده، و يتحمل الاذى منهم، و يعفو عن مسيئهم و يصفح عن ظالمهم، و يعود مرضاهم، و يشيع جنائزهم، و يحفظ اسرارهم، و يوثرهم على نفسه، و يقبل اعذارهم، و يكون لهم كما يحب ان يكونوا له.
ان الاخلاق الاسلاميه تنطلق من المبادره الذاتيه التى تعطى من دون حساب، و تنفتح على كل حال، و تعفو دون مقابل، كما جاء فى الحديث النبوى الشريف عن مكارم الاخلاق فى ما روى عنه: «تصل من قطعك و تعطى من حرمك و تعفو عمن ظلمك». و هذا فى الخط العام، فاذا انضم الى ذلك الوضع الانسانى للفقير الذى يملك الاحساس الدقيق بالكلمه الطيبه التى تفتح قلبه فى مقابل الكلمه الخبيثه التى تغلقه، و يعيش العقده الكامنه فى داخل ذاته، من خلال الاهانات التى يوجهها اليه الاغنياء، و الاحتقار الذى يختزنونه فى نفوسهم، فان الاحسان اليه و الحذر من الاساءه اليه يمثلان قيمه روحيه فوق القيمه، و صفه اخلاقيه مميزه.
و فى ختام الدعاء ينطلق الامام (ع) فى الايحاء الذاتى الروحى للنفس بان الله قد يدخر للانسان فى خزائنه الباقيه، بعض ما منعه منه من متاع الدنيا الفانيه، و انه قد يجعل ما اعطاه من حطامها وسيله من وسائل القرب اليه و السكن الى جواره، و الدخول الى جنته، لانه ذو الفضل العظيم و هو الجواد الكريم.
و بذلك فان نفسه لا تسقط امام الحرمان لتعيش الشقاء من خلاله، و لا تطغى امام الثروه، لتفقد التوازن فى مسوولياتها معها، بل تقابل الحرمان بالامل فى ثواب الاخره، و تنفتح على المال لتسخره للوصول الى مواقع رضى الله سبحانه.
و بذلك يكون هذا الدعاء و ثيقه فكريه فى مفاهيم الاسلام عن المال و عن انسانيه الانسان فى موقفه من الله بالاضافه الى المعنى الروحى الذى يعيشه من خلاله.
اللهم صل على محمد و آله، و هب لى العافيه من دين تخلق به وجهى، و يحار فيه ذهنى، و يتشعب له فكرى، و يطول بممارسته شغلى، و اعوذ بك يا رب من هم الدين و فكره، و شغل الدين و سهره، فصل على محمد و آله، و اعذنى منه، و استجير بك من ذلته فى الحياه و من تبعته بعد الوفاه، فصل على محمد و آله، و اجرنى منه بوسع فاضل او كفاف و اصل.
اللهم انى اعوذ بك من ذل الدين فى الحياه:
يا رب، ربما تضيق بى الامور فتضيق على موارد الاموال و مصادرها، و تشتد بى الحاجات فتضغط على بجوعها و عطشها و كل متطلباتها الى المال الذى لا اجده لانى لا املكه، فتضطرنى الى الاستدانه من الناس الذين ينطلقون فى الاستجابه لى من موقع العاطفه او المصلحه، او الحاجه الى السيطره على موقعى او موقفى، او اخضاعى لما يريدون، فابقى اسيرهم من خلال الدين الذى يخلق وجهى كما لو لم يكن لى وجه من خلال ذهاب مائه، و زوال نضارته و عزته الروحيه، و يبعث الحيره فى عقلى حتى كانه لا يدرك شيئا، و يتوزع فيه فكرى فلا يستقر على شىء و لا يملك التركيز على نقطه معينه، فلا يصل معه الى نتيجه حاسمه، و يتحول الى شغل شاغل لى حتى يشغلنى عن كل اعمالى، فلا افرغ معه لعمل جاد لوقت طويل.
احاديث مرتبط:
اداى دين و قرض.
قال رسولالله صلى الله عليه و آله: و من كان له على رجل مال اخذه و لم ينفقه فى اسراف او فى معصيه فعسر عليه ان يقضيه فعلى من له المال ان ينظره حتى يرزقه الله فيقضيه. (بدهكارى كه قرض گرفته شده را در دائرهى اسراف نبرده و در معصيت خرج نكرده و از اداى دين خود عاجز گشته، بر طلبكار است كه او را مهلت دهد تا از جانب حق براى او فرجى برسد و به اداى دين خويش موفق گردد.) بحارالانوار، ج 103، ص 148
آيات مرتبط:
قرض و وام و پاداش خداوندى:
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَ اللَّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (كيست آن كس كه به [بندگانِ] خدا وام نيكويى دهد تا [خدا] آن را براى او چند برابر بيفزايد؟ و خداست كه [در معيشت بندگان] تنگى و گشايش پديد مىآورد؛ و به سوى او بازگردانده مىشويد.) قرآن كريم، سوره مباركه البقرة (2)، آيه 245.