بازگشت

الفصل الثالث


تخطيط الإمام زين العابدين(عليه السلام) وجهاده







نجد في سيرة الأئمّة(عليهم السلام) العديد من الأدلّة التي أوضحوا من خلالها للناس سبب الاختلاف في أساليبهم في قيادة الحركة الإسلامية من إمام لآخر.



فالإمام السجاد(عليه السلام) قال له عبّاد البصري وهو في طريق مكّة: تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت علي الحجّ ولينه، و (إنّ الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم)[1]فأجابه الإمام(عليه السلام): إقرأ بعدها: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشّر المؤمنين)، ثمّ قال(عليه السلام): إذا ظهر هؤلاء ـ يعني المؤمنين حسب مواصفاتهم في الآية ـ لم نؤثر علي الجهاد شيئاً[2].



وبهذه الإجابة حدّد الإمام(عليه السلام) بشكل صارم سياسته ولون كفاحه، ووجهة حركته في عصره، ومن ثمّ الأسباب الموجبة لذلك المسار، فإنّ عدوله عن الكفاح المسلّح والمواجهة العسكرية للحكم الاُموي لم تأتِ حبّاً في الحياة ونعيمها كما تصوّر عبّاد البصري، وإنّما جاء ذلك لأنّ مستلزمات العمل العسكري الناجح غير متوفرة، ولأنّ النتائج من أيّ تحدٍّ للسلطان في تلك الظروف تكون عكسيّةً تماماً.



وبعد ملحمة كربلاء مباشرةً تبنّي الإمام السجاد(عليه السلام) وكرائم أهل البيت كزينب واُمّ كلثوم ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ سياسة إسقاط الأقنعة التي كان الاُمويون قد غطّوا وجوه سياستهم الكالحة الخطيرة بها، وحمّلوا الاُمّة كذلك مسؤوليتها التأريخية أمام الله والرسالة.



ومن هنا نلاحظ بوضوح أنّ الخطب والتصريحات التي صدرت عن الإمام زين العابدين(عليه السلام) وعقائل أهل البيت(عليهم السلام) في العراق قد انصبّت علي مخاطبة ضمائر الناس كمجموع، وإلفات نظر الناس إلي جسامة الخطر الذي حاق بهم، وإلي حجم الجريمة التي ارتكبتها بنو اُمية بحقّ رسالة الله تعالي.



وفي الشام ركّزت كلمات الإمام السجّاد(عليه السلام) علي التعريف بالسبايا ذاتهم، وأنّهم آل الرسول(صلي الله عليه وآله)، ثمّ فضح الحكم الاُموي وتعريته أمام أهل الشام الذين أضلّهم عن رؤية الواقع.



وقبل دخوله المدينة عمل الإمام السجاد(عليه السلام) علي إثارة الرأي والوعي العام الإسلامي وتوجيهه الي محنة الرسالة التي تمثّلت في فاجعة الطفّ، فقد كان خطابه الذي ألقاه بالناس يستبطن هذه المعاني.



ولقد أعطت تجربة كربلاء مؤشّراً عملياً علي أنّ الاُمّة المسلمة في حالة ركود وتبلّد ممّا جعل الروح الجهادية لديها في حالة غياب إن لم نقل إنّها كانت معدومة نهائياً، ومن أجل ذلك فإنّ السجاد(عليه السلام) ـ باعتباره إمام الاُمّة الذي انتهت إليه مرجعية الاُمّة ـ أخذ تلك الظاهرة بعين الاعتبار، ولذلك مارس دوره من خلال العمل علي تنمية التيار الرسالي في الاُمّة، وتوسيع دائرته في الساحة الإسلامية، والعمل علي رفع مستوي الوعي الإسلامي والإنفتاح العملي في قطاعات الاُمّة المختلفة، وخلق قيادات متميزة تحمل الفكر الإسلامي النقي، لا الفكر الذي يُشيعه الحكم الاُموي.



ولهذا النهج مبرّراته الموضوعية، فإنّ قوي الانحراف عبر سنوات عديدة من سيطرتها علي مراكز التوجيه الفكري والإجتماعي توفّرت علي صنع أجيال ذائبة في الانحراف، الأمر الذي أصبح فيه من المتعذّر علي التيار الإسلامي السليم مواجهتها، بالنظر لضخامة تلك القوي، وتوفّر الغطاء الواقي لها من مؤسسات وقدرات ولتعرّض التيار الإسلامي ذاته للخسائر المتتالية.



ومن هنا، فإنّ أمر تكثيف التيار الإسلامي وإثرائه كمّاً وكيفاً مسألة لا تقبل التأجيل، ما دام أمر بقاء الرسالة حيّة ـ فكراً وعملاً ـ متوقّفاً علي بقاء سلامة هذا التيار في كيان الاُمّة وقواعدها الشعبية، طالما لم يتسنّ له تسلّم المرجعية العامة في الإدارة والحكم.



ولقد نجحت خطط الإمام(عليه السلام) علي شتّي الأصعدة وحسبما خطّط لها، وفيما يلي مصداقان عمليان علي ذلك:



ففي المجال الإجتماعي أثمرت خطّة الإمام(عليه السلام) حيث حظي بإجلال القطّاعات الواسعة من الاُمّة وولائها، والمصادر التأريخية مجمعة علي ذلك. قال ابن خلّكان: لمّا حجّ هشام بن عبد الملك في أيام أبيه، فطاف وجهد أن يصل الحجر ليستلمه، فلم يقدر عليه لكثرة الزحام، فنُصِب له منبر وجلس عليه ينظر إلي الناس، ومعه جماعة من أعيان أهل الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب «رضي الله عنهم»، وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً، فطاف بالبيت، فلمّا انتهي إلي الحجر تنحّي له الناس حتي استلم، فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام، وكان الفرزدق حاضراً فقال:أنا أعرفه،فقال الشامي:من هذا يا أبافراس؟فقال:



هذا ابْنُ خَيرِ عِبادِ اللهِ كُلِّهِمُ هذا النَّقيُّ التَقِيُّ الطاهِرُ العَلَمُ



مُشتَقَّةٌ مِن رَسولِ اللهِ نَبْعَتُهُ طابَتْ عَناصِرُهُ والخِيمُ والشِيَمُ



الله شَــــــــــرَّفَهُ قِدْماً وعَظَّمَهُ جَري بِذاك لهُ في لَوحِهِ القَلَمُ



مِنْ مَعشَر حُبُّهُمْ دينٌ وبُغْضُهُمُ كُفْرٌ وقُرْبُهُم مَنْجيً ومُعْتَصَمُ



أيُّ الخَلائِقِ لَيْسَتْ في رِقابِهِم لاِوَّلِيَّةِ هذا أوْ لَهُ نِعَـــــــــــمُ؟







إنّ هذه الحادثة توضّح أنّ الإمام(عليه السلام) كان قد حظي بولاء جماهيريٍّ حقيقيٍّ واسع النطاق، بشكل جعل ذلك الولاء يتجسّد حيّاً حتي في أقدس ساعة، وفي موقف عباديّ مشهود، فما أن تلتقي الجماهير الكثيفة بإمامها الحقّ حتي توسّع له، لكي يؤدّي مناسكه دون أيّة مضايقة عفوية منها، بالرغم من أنّ الاُمّة تدرك عداء الحكم الاُموي لأهل البيت(عليهم السلام) وما يترتّب علي ذلك العداء من موقف تجاه أنصار أهل البيت(عليهم السلام) وأتباعهم.



وحقّق النشاط العلمي للإمام(عليه السلام) غاياته المتوخّاة، فالمسجد النبويّ الشريف ودار الإمام(عليه السلام) شهدا طوال خمسة وثلاثين عاماً ـ وهي فترة إمامته ـ نشاطاً فكرياً من الطراز الأول، حيث استقطب الإمام(عليه السلام) طلاّب المعرفة الإسلامية في جميع حقولها، لا في المدينة المنورة ومكّة المكرمة وحدهما، وإنّما في الساحة الإسلامية بأكملها، حتي استطاع أن يخلق نواة مدرسة فكرية لها طابعها ومعالمها المميّزة، وتخرّج منها قادة فكر ومحدّثون وفقهاء.



إنّ انفصام عري الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام) وتَشَتُّت قُواهم كان من أعظم الأخطار التي واجهها الإمام زين العابدين(عليه السلام) باتّجاه استجماع القوي وتكميل الإعداد من جديد، وقد كان هذا الهدف بحاجة إلي إعداد نفسي وعقيدي وإحياء الأمل في القلوب وبثّ العزم في النفوس.



وقد تمكّن الإمام زين العابدين(عليه السلام) بعمله الهادئ والمنظّم أن يشرف علي تكميل هذه الاستعادة، وعلي هذا الإعداد بكل قوّة وبحكمة وبسلامة وجدّ.



وقد أطلق الإمام(عليه السلام) نهجاً جهادياً ينهض بأعباء متطلبات المرحلة الخطيرة آنذاك. ويمكن الحديث عن هذا النهج عبر مستويات متعدّدة :

پاورقي





[1]التوبة (9): 111.



[2] من لا يحضره الفقيه : 2 / 141، ومناقب آل أبي طالب : 4 / 173 باختلاف يسير في الألفاظ.



[3] القصيدة طويلة وهي مذكورة في كثير من المصادر التأريخية والأدبية، اُنظر : وفيات الأعيان لابن خلّـكان: 6 / 96، الإرشاد للمفيد: 2/150 ، 151 عن محمّد بن اسماعيل بن جعفر الصادق(عليه السلام) وراجع غيرهما من المصادر في أوائل الفصل الأوّل من الباب الأوّل.