بازگشت

الفصل الثاني


الإمام زين العابدين(عليه السلام) في المدينة







بدأت ردود الفعل علي مقتل الإمام الحسين(عليه السلام) بالظهور مع دخول سبايا أهل البيت(عليهم السلام) إلي الكوفة. فبالرغم من القمع والإرهاب اللذين مارسهما ابن زياد مع كلّ من كان يبدي أدني معارضة ليزيد، فإنّ أصواتاً بدأت ترتفع محتجّةً علي الظلم السائد.



فعندما صعد ابن زياد المنبر وأثني علي يزيد وحزبه وأساء إلي الحسين(عليه السلام) وأهل بيت الرسالة «قام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي وقال له: يا عدوّ الله إنّ الكذّاب أنت وأبوك والذي ولاّك وأبوه يابن مرجانة، تقتل أولاد النبيّين وتقوم علي المنبر مقام الصدّيقين؟!



فقال ابن زياد: عليّ به، فأخذته الجلاوزة فنادي بشعار الأزد، فاجتمع منهم سبعمائة فانتزعوه من الجلاوزة، فلمّا كان الليل أرسل إليه ابن زياد من أخرجه من بيته فضرب عنقه وصلبه»[1]، ومع أنّ هذه المواجهة انتهت لصالح ابن زياد لكنّها كانت مقدّمة لاعتراضات اُخري.



وظهرت في الشام أيضاً بوادر السخط والاستياء، الأمر الذي جعل يزيد ينحو باللائمة في قتل الحسين(عليه السلام) علي ابن زياد، إلاّ أنّ أشدّ ردود الفعل كانت تلك التي برزت في الحجاز، فقد انتقل عبد الله بن الزبير إلي مكة في الأيّام الاُولي من حكومة يزيد، واتّخذها قاعدة لمعارضته للشام، وقام بتوظيف فاجعة كربلاء للتنديد بنظام يزيد، وألقي خطاباً وصف فيه العراقيّين بعدم الوفاء، وأثني علي الحسين بن عليّ(عليه السلام) ووصفه بالتقوي والعبادة.



وفي المدينة ألقي الإمام زين العابدين(عليه السلام) خطاباً في أهلها لدي عودته من الشام والعراق، يقول المؤرّخون: إنّ الإمام(عليه السلام) جمع الناس خارج المدينة قبل دخوله اليها، وخطب فيهم قائلاً:



«الحمد لله ربّ العالمين مالك يوم الدين بارئ الخلائق أجمعين، الذي بَعُد فارتفع في السماوات العُلي، وقَرُب فشهد النجوي، نحمده علي عظائم الاُمور، وفجائع الدهور، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظّة الفادحة الجائحة.



أيّها القوم، إنّ الله ـ وله الحمد ـ ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبد الله الحسين(عليه السلام) وسُبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة.



أيّها الناس، فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟! أم أيّ فؤاد لا يحزن مِن أجله؟! أم أيّة عين منكم تحبس دمعها وتضنّ عن انْهمالِها؟! فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها، والسماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان ولجج البحار والملائكة المقرّبون وأهل السماوات أجمعون.



يا أيّها الناس، أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟! أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟! أم أيّ سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصمّ؟!



أيّها الناس، أصبحنا مطرودين مشرّدين مذودين وشاسعين عن الأمصار، كأ نّا أولاد ترك وكابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، إنْ هذا إلاّ اختلاق.



والله، لو أنّ النبيّ تقدّم اليهم في قتالنا كما تقدم اليهم في الوصاية بنا لما زادوا علي ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها وأكظّها وأفظعها وأمرّها وأفدحها! فعند الله نحتسب فيما أصابنا وأبلغ بنا، فإنّه عزيز ذو انتقام»[2].



لقد جسّد هذا الخطاب ـ علي قصره ـ واقعة كربلاء علي حقيقتها مركّزاً علي المظلومية التي لحقت بأهل البيت(عليهم السلام) في قتل الحسين بن عليّ(عليه السلام) من جانب، وأسرِ أهل بيته من جانب آخر، بالإضافة إلي المظلومية التي لحقتهم بعد واقعة الطفّ، إذ حملت رؤوس الشهداء بما فيهم سيّدهم الحسين(عليه السلام) فوق الأسنّة من بلد إلي بلد.



وعقّب الإمام زين العابدين(عليه السلام) ـ بلمحة سريعة ومعبّرة ومؤثّرة ـ واصفاً ما لقيه آل البيت من السبي والتشريد والتعامل السيّء والمهين، وهم أهل بيت الوحي ومعدن الرسالة، وهم قادة أهل الإيمان وأبواب الخير والرحمة والهداية.



وأنهي الإمام خطابه بوصف في منتهي الدقّة عن عظمة الجرائم التي ارتكبها جيش السلطة الاُموية في حقّ أهل البيت(عليهم السلام)، فإن الرسول(صلي الله عليه وآله) لو كان يأمر هؤلاء بالتمثيل بأهل البيت وتعذيبهم لما كانوا يزيدون علي ما فعلوا، فكيف بهم وقد نهاهم عن التمثيل حتي بالكلب العقور؟! وكيف يمكن توجيه كلّ ما فعلوه وقد أوصاهم النبيّ(صلي الله عليه وآله) بحفظه في عترته، ولم يطالبهم بأجر للرسالة سوي المودّة في قرباه؟!



فالإمام زين العابدين(عليه السلام) حاول في خطابه هذا تكريس مظلومية أهل البيت لاستنهاض الروح الثورية في أهل المدينة، وتحريك الوعي النهضوي ضدّ الظلم والجبروت الاُموي والطغيان السفياني.



ولم تكن الأوضاع هادئة في المدينة في هذه السنة التي كانت تحت إدارة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وأوضح شاهد علي اضطراب الأوضاع في المدينة هو استبدال ثلاثة ولاة خلال عامين، واستبدل يزيد الوليد بن عتبة بعثمان بن محمد بن أبي سفيان[3].



وأراد عثمان أن يدلّل علي كفاءته في إدارة المدينة ويكسب رضا وجوهها عن يزيد وعنه فأرسل وفداً من أبناء المهاجرين والأنصار إلي دمشق، ليشاهدوا الخليفة الشابّ عن كثب وينالوا نصيبهم من هداياه، إلاّ أن الوفد رأي في سلوك يزيد ما يشين ويقبح.



ولما رجعوا إلي المدينة أظهروا شتم يزيد وعيبه، وقالوا: قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويضرب بالطنابير، وتعزف عنده القِيان، ويلعب بالكلاب، ويسمر عنده الحراب ـ وهم اللصوص ـ وإنّا نشهدكم أنّا قد خلعناه.



وقال عبد الله بن حنظلة: لو لم أجد إلاّ بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم، وقد أعطاني وأكرمني وما قبلت عطاءه إلاّ لأتقوّي به.



فخلعه الناس وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل علي خلع يزيد وولّوه عليهم[4].

پاورقي





[1] الإرشاد: 2/117 وعنه في وقعة الطف لأبي مخنف: 265، 266.



[2] اللهوف: 116، بحار الأنوار : 45 / 148 ـ 149.



[3] تأريخ الطبري : 5 / 479، 480 .



[4] الطبري : 5 / 480 وعنه في الكامل في التأريخ : 4 / 103.