بازگشت

بناء الكوادر


النوع الثاني من البيانات هو تلك التي يوجه فيها الخطاب لمجموعة خاصة. هذه الخطابات وإن لم يعلم منها بالتحديد من هي تلك الفئة المخاطبة، ولكن من الواضح أنها لفئة مخالفة للنظام الحاكم وأفرداها هم في الواقع من أتباع الإمام (ع) ومن المعتقدين بحكومة أهل البيت (ع).



ولحسن الحظ أننا نجد في كتاب تحف العقول نموذجاً من هذا النوع من البيانات (وذلك لأننا لا نجد في غيره من الكتب موارد أخري من هذا النوع بالرغم من أن هناك الكثير من مثل هذه البيانات في حياة الإمام السجاد (ع)، ولكن علي أثر الحوادث المختلفة التي جرت في ذلك العصر من القمع والتنكيل والاضطهاد وقتل الأصحاب زالت تلك الآثار وبقي القليل منها).



يبدأ الخطاب التابع لهذا النوع الثاني هكذا:



"كفانا الله وإياكم كيد الظالمين وبغي الحاسدين وبطش الجبّارين".



ويعلم من هذا البيان أن الإمام والجمع الحاضر مهددون من قبل السلطات الحاكمة، وأن المسألة ترتبط بمجموعة خاصة هم المؤمنين بأهل البيت (ع)، ولذلك جاء الخطاب بصيغة “يا أيها المؤمنون” خلافاً للنوع الأول حيث يستعمل “يا أيها الناس” أو “يا بن آدم”. وذلك لأن الخطاب موجه إلي المؤمنين في الحقيقة بأهل البيت وأفكار أهل البيت (ع).



والدليل الآخر الواضح جداً عندما يقول (ع): "لا يفتننكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا، والمائلون إليها المفتونون بها، المقبلون عليها".



فالمقصود الأصلي من الكلام هو حفظ هؤلاء المؤمنين وبناء الكادر اللازم للمستقبل، ومن الواضح أنه علي أثر الصراع الشديد في الخفاء ما بين أتباع الأئمة (ع) وأتباع الطواغيت فإن أتباع الأئمة عانوا من الحرمان الكبير، كما حدث في مرحلة جهادنا: أولئك الذين كانوا يواجهون الحكم قبل انتصار الثورة بالتأكيد لم يكونوا في حالة الراحة التي كان يعيشها غيرهم، وإنما كان السجن والنفي والخوف والتعذيب والهروب عنوان حياتهم. فإذا كان أحدهم تاجراً أو بائعاً مثلاًُ يفرضون عليه ضرائب أكثر من الحد المعمول به، وإذا كان طالباً جامعياً يبقي دائماً مراقباً وقد يخرجونه من الجامعة، وإذا كان معمماً يلاحق ويعتقل أو ينفي، وإذا كان إدارياً يعزل أو يعلّق راتبه؛ فمهما كان المجاهد ومن أية طبقة كان في زمن الشاه كان يعاني من حرمان مادي ونقص في الأموال. بل إنهم منعوا البعض من الذهاب إلي الحج وذلك بالتضييق عليه أو منعه من السفر.



والخطر الأكبر الذي يهدد المجاهدين هو أن يتوجهوا إلي الرفاهية، هذه الرفاهية التي لا تجرهم إلاّ إلي ترك الجهاد.



لقد كان الإمام (عليه السلام) يؤكد كثيراً علي هذه النقطة ويحذر الناس من الرفاهيات في هذه الدنيا الكاذبة الخداعة التي لا تؤدي إلاّ إلي التقرّب من الطواغيت. لهذا فإنكم تجدون في هذا البيان وفي العديد من بيانات الإمام السجاد (ع) وفي الروايات القصيرة التي نقلت عنه تأكيداً علي هذا الأمر.



ماذا يعني التحذير من الدنيا؟ يعني حفظ الناس من الانجذاب نحو أصحاب الرفاه والإيمان بهم وتمييزهم بحيث تخف حدة مواجهة الناس لهم. وبالطبع فإن هذا النوع من الخطابات موجه للمؤمنين، أمّا في الخطاب الموجه إلي عامة الناس فقليلاً ما نجد مثل هذا النوع. ففي خطاب عامة الناس كما ذكرنا سابقاً كثيراً ما يظهر: أيها الناس التفتوا إلي الله، إلي القبر والقيامة، إلي أنفسكم والغد. فما هو هدف الإمام (ع) من هذا النوع الثاني من الخطاب؟ المقصود هو بناء الكادر.



فهو (ع) يريد أن يصنع من المؤمنين كوادر ملائمة للمرحلة، ولهذا فإنه يحذرهم من الانجذاب نحو أقطاب القدرة والرفاهية الكاذبة، ويكرر ذكر النظام الحاكم خلافاً للنوع الأول من البيانات، كما يقول مثلاً: "وان الأمور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مظلات الفتن وحوادث البدع وسنن الجور وبوائق الزمان وهيبة السلطان ووسوسة الشيطان". وهنا نجد أن الإمام مباشرة بعد ذكر هيبة السلطان وقدرته يذكر وسوسة الشيطان، يريد بذلك أن يلفت النظر إلي حاكم ذلك الزمان ويضعه إلي جانب الشيطان. وفي تتمة الكلام جملة لافتة جداً (ولأنها مهمة جداً أنقلها وهي تحكي عن مطلب ذكرته سابقاً): "لتثبّط القلوب عن نيتها وتذهلها عن موجود الهدي ومعرفة أهل الحق" (تلك الهداية الموجودة الآن في المجتمع).



فالإمام السجاد (ع) يعظهم بنفس الأسلوب السابق، فهو يحذرهم من مجالسة أهل المعاصي. من هم أهل المعاصي؟ أولئك الذين جُذبوا لنظام عبدالملك الظالم. الآن حاولوا أن تتصوروا شخصية الإمام السجاد (ع)، وأن تكوّنوا تصوراً عنه. هل ما زال ذلك الإمام المظلوم الصامت المريض الذي لا شأن له بالحياة؟ لا، فالإمام هو الذي كان يدعو مجموعة من المؤمنين والأصحاب ويحذرهم ــ بهذه الكيفية التي ذكرناها ــ من التقرب إلي الظلمة ونسيان المجاهدة، ويمنعهم من الانحراف عن هذا الطريق، كل ذلك لأجل أن يكونوا مؤثرين في إيجاد الحكومة الإسلامية.