بازگشت

مواقف الإمام في مراحل القمع


يظن البعض أنه فيما لو أراد الإمام أن يقاوم نظام بني أمية لكان ينبغي أن يرفع راية المقاومة، أو أن يلتحق بالمختار أو عبدالله بن حنظلة أو أن يقودهما معلناً بذلك المقاومة المسلحة بكل وضوح. لكننا نفهم من خلال النظر إلي ظروف زمان الإمام السجاد (ع) أن هذا ظنّ خاطئ وذلك بالالتفات إلي هدف الأئمة (ع) الذي سأبينه لاحقاً.



لو قام الأئمة (ع)، ومن جملتهم الإمام السجاد (ع) في تلك الظروف بمثل هذه التحركات العلنية والسلبية، فباليقين لما بقي للشيعة من باقية، ولما بقيت الأرضية أو فسح المجال لاستمرار ونمو مدرسة أهل البيت ونظام الولاية والإمامة فيما بعد. لهذا نجد أن الإمام السجاد (ع) في قضية المختار لم يعلن التعاون معه، وبرغم ما جاء في بعض الروايات عن ارتباط سري بينهما إلاّ أنه وبدون أدني شك لم يكن ارتباطاً علنياً، حتي قيل في بعض الروايات أن الإمام السجاد (ع) كان يذم المختار، ويبدو هذا الأمر طبيعياً جداً من ناحية التقية، وذلك حتي لا يُشعر بوجود أي ارتباط بينهما، مع العلم بأنه فيما لو انتصر المختار فإنه بالتأكيد سيعطي الحكومة لأهل البيت (ع)، ولكن في حال هزيمته، ومع وجود أدني ارتباط واضح وعلني، لكانت النقمة شملت وبشكل قطعي الإمام السجاد (ع) وشيعة المدينة واجتثت جذور التشيع أيضاً. لأجل ذلك لم يُظهر الإمام أي نوع من الارتباط العلني معه.



جاء في إحدي الروايات أنه عندما دخل مسلم بن عقبة إلي المدينة في واقعة الحرة، لم يشك أحد علي الاطلاق في أن أول شخص سيقع ضحية نقمته هو علي بن الحسين (ع)، لكن الإمام السجاد بتدبيره الحكيم تصرف بحيث دفع هذا البلاء عنه، وبذلك حافظ علي استمرار المحور الأصلي للشيعة.



وهناك روايات في بعض الكتب ــ منها “بحار الانوار” ــ تحكي عن إظهار التذلل من قبل حضرة السجاد (ع) عند مسلم بن عقبة، ولكنني بالقطع أكذب هذه الروايات وذلك للأسباب التالية:



أولاً: لا تستند هذه الروايات إلي أي سند صحيح.



ثانياً: يوجد روايات أخري تكذبها وتدفعها من حيث المضمون.



ففي لقاء الإمام (ع) مع مسلم بن عقبة توجد روايات عديدة لا تنسجم أية واحدة منها مع الأخري، لأن بعض تلك الروايات تنطبق وتنسجم أكثر مع نهج الأئمة وسيرتهم، فنحن بصورة طبيعية نقبلها.



علي كل حال، مع أننا لا نقبل بتلك الروايات التي تتحدث عن صدور مثل هذه الأفعال عن الإمام، ولكننا لا نشك أيضاً في أن الإمام لم يقابل مسلم بن عقبة بتصرف معادٍ، لأن أي تصرف من هذا القبيل سوف يؤدي إلي قتل الإمام، وهذا سيؤدي بدوره إلي خسارة عظيمة لا تجبر بلحاظ الدور الذي ينبغي أن يقوم به الإمام السجاد بالنسبة لثورة الإمام الحسين (ع) وتبليغ حقيقتها. لهذا يبقي الإمام ــ وكما قرأنا في رواية الإمام الصادق (ع) ــ ويلحق الناس شيئاً فشيئاً ويزداد عددهم. وفي ظل تلك الظروف الصعبة وغير المساعدة يبدأ عمل الإمام السجاد (ع).



في تلك الفترة ساد حكم عبد الملك ــ الذي شمل أكثر مراحل الإمام لمدة تجازوت الثلاثين سنة ــ وكان نظامه يقوم بالإشراف التام والمراقبة الدائمة لحياة الإمام السجاد (ع)، ويستخدم الجواسيس والعيون الكثيرة التي كانت تنقل إليه أدق التفاصيل حتي المسائل الداخلية والخاصة للإمام.



فمثلاً كان للإمام السجاد (ع) جارية تزوجها بعد أن أعتقها. وصل هذا الخبر إلي عبدالملك، فكتب رسالة إلي الإمام السجاد أراد أن يفهمه فيها أنه مطلع علي أعماله ومجريات حياته، وكان يريد ضمن ذلك أيضاً أن يقوم بنوع من البحث والتفاخر والاستعلاء، فيكتب للإمام أن هذا العمل ليس من سيرة قريش، وأنت من قريش، فما كان ينبغي أن تفعل هذا! فيجيبه الإمام جواباً شديداً مظهراً عدم تقبله لتصرف عبدالملك الممتزج بالتودد والمكر.



بعد أن اتضحت أرضية عمل الإمام، أشير بشكل مختصر إلي الهدف والمنهج الذي اعتمده الأئمة، وبعدها نقوم بدراسة جزئيات حياة ذلك الإمام فيما يتعلق بهذا النهج.



بدون شك كان الهدف النهائي للإمام السجاد (ع) إيجاد الحكومة الإسلامية، وكما جاء في كلام الصادق (ع) بأن الله تعالي قد وقت عام 70 لقيام الحكومة الإسلامية، ثم بسبب قتل الإمام الحسين (ع) سنة 60 فإن الله أخرها إلي سنة 147 ــ 148، وهذا يحكي بشكل تام عن أن الهدف النهائي للإمام السجاد وسائر الأئمة هو إيجاد الحكومة الإسلامية. ولكن كيف يمكن أن تقام الحكومة الإسلامية في مثل تلك الظروف؟ إن هذا يحتاج إلي عدة أمور:



1ــ ينبغي أن تدّون وتدرس وتنتشر المدرسة الإسلامية الحقيقية التي يحمل علمها الأئمة (ع)، هذه المدرسة التي هي أيضاً المبني الأساس للحكومة الإسلامية.



إذ كيف يمكن أن تقام حكومة مبنية علي أساس الفكر الإسلامي الأصيل، والمجتمع الإسلامي قد أبعد لسنوات طويلة عن الفكر الإسلامي الصحيح، إضافة إلي أنه لم تكن هناك أية ظروف مساعدة لنشره وتثبيت أركانه بين الناس؟



إن أعظم الأدوار التي مارسها الإمام السجاد (ع) هي أنه دوّن الفكر الأصيل للإسلام: كالتوحيد، والنبوة، وحقيقة المقام المعنوي للإنسان، وارتباطه بالله، وأهم دور كان للصحيفة السجادية هو في هذا المجال. فانظروا إلي هذه الصحيفة، ثم جولوا ببصركم في أوضاع الناس علي صعيد الفكر الإسلامي في ذلك الزمان ستجدون مدي المسافة التي تفصل بين الاثنين.



ففي ذلك الزمان الذي كان المسلمون في كل أنحاء العالم الإسلامي يسيرون نحو الحياة المادية والملذات بدءاً من شخص الخليفة عبدالملك بن مروان إلي العلماء المحيطين به (ومن جملتهم محمد بن شهاب الزهري، وسوف أذكر أسماء علماء البلاط فيما بعد)، نزولاً إلي الجميع الذين كانوا يغوصون في بحر الدنيا والماديات، يقف الإمام السجاد (ع) ويقول مخاطباً الناس:



"أولا حرّ يدع هذه اللمامة لأهلها".



ففي هذه الجملة يوضح الإمام أن الفكر الإسلامي الاصيل كان عبارة عن: جعل الهدف للمعنويات والتحرك نحو الوصول إلي الاهداف المعنوية والإسلامية، وجعل الإنسان يرتبط بالله عبر التكليف. وهذا هو الموقف المقابل تماماً لحركة الناس في ذلك الزمن.



كان علي الإمام السجاد (ع) أن يقوم بعمل كبير لأجل أن يحفظ الفكر الأصيل للإسلام في فضاء المجتمع الإسلامي. وكانت هذه الحادثة بداية أعمال الإمام السجاد (ع).



2ــ تعريف الناس علي حقانية أولئك الذين ينبغي أن يتسلموا زمام الحكم، إذ كيف يمكن لأهل البيت تشكيل حكومة في الوقت الذي كان الإعلام والتبليغ ضد آل الرسول قد ملأ العالم طوال عشرات السنين حتي عصر الإمام السجاد (ع)، وفيه ظهرت الأحاديث الموضوعة علي رسول الله والتي تخالف حركة أهل البيت، بل إنها في بعض الموارد تشتمل علي سبهم ولعنهم، وقد نشرت بين اناس لم يكن لديهم أي اطلاع علي المقام المعنوي والواقعي لأهل البيت.



لهذا، فإن أحد الأهداف والتحركات المهمة للإمام كانت ترتبط بتعريف الناس علي حقانية أهل البيت وأن مقام الولاية والإمامة والحكومة حق ثابت لهم وهم الخلفاء الواقعيون للنبي (ص). وهذا الأمر إضافة لما له من أهمية عقائدية وفكرية فإنه يرتبط بالحركة السياسية المناهضة للنظام الحاكم.



3ــ كان علي الإمام أن يؤسس بعض الاجهزة والتشكيلات التي يمكن أن تكون منطلقاً أصلياً للتحركات السياسية المستقبلية؛ ففي مجتمع متمزق يعيش تحت أنواع القمع والفقر والتضييق المالي والمعنوي، وبالأخص الشيعة الذين كانوا يعانون من تضييق متزايد، لم يكن باستطاعة الإمام السجاد (ع) أن يقوم وحده أو مع جماعة قليلة وغير منظمة بالثورة والمواجهة. لهذا كان همّ الإمام السجاد (ع) أن يبدأ بتشكيل هذه التنظيمات التي كانت ــ برأينا ــ موجودة منذ أيام أمير المؤمنين، غير أنها ضعفت وتلاشت إثر واقعة عاشوراء والحرة وواقعة المختار.



بالنتيجة نجد أن عمل الإمام يدور ضمن ثلاثة محاور:



الأول: تدوين الفكر الإسلامي بصورة صحيحة وطبق ما أنزل الله، بعد مرور أزمنة من التحريف والنسيان عليه.



الثاني: إثبات حقانية أهل البيت في الخلافة والإمامة.



الثالث: إيجاد التشكيلات المنظّمة لأتباع أهل البيت (ع) وأتباع التشيع.



هذه الأعمال الثلاثة هي التي ينبغي أن ندرسها ونبحث لنري أي واحد منها قد تحقق في حياة الإمام السجاد (ع).



إلي جانب هذه الأعمال كانت هناك أيضاً أعمال أخري وتحركات قام بها الإمام وأتباعه لأجل اختراق ذلك الجو المرعب والقمعي؛ ففي ظل الإجراءات الأمنيّة المشدّدة التي كان يفرضها الحكم نلاحظ مواقف عديدة للإمام أو أتباعه، كان الهدف منها كسر حواجز القمع وصناعة بعض الأجواء الملائمة ، خاصة مع الأجهزة الحاكمة أو التابعة لها، مثل المواقف التي حدثت بين الإمام وعبدالملك عدة مرات، أو الأمور التي جرت مع العلماء المنحرفين والتابعين لعبدالملك (من قبل محمد بن شهاب الزهري)، كل ذلك لأجل خرق ذلك الجو المتشدد.



إن الباحث عندما يستعرض الروايات سواء الأخلاقية أو المواعظ أو الرسائل التي نقلت عن الإمام أو التصرفات التي صدرت عنه، وذلك علي اساس ما بيّناه، فإنه سوف يجد لها المعاني المناسبة، وبتعبير آخر سوف يري أن جميع تلك التحركات والأقوال كانت ضمن الخطوات الثلاث التي اشرنا إليها، والتي كانت تصب جميعاً في دائرة إيجاد الحكومة الإسلامية. وبالتأكيد لم يكن الإمام يفكر في إيجاد حكومة إسلامية في زمانه، لأنه كان يعلم أن وقتها في المستقبل، أي في الحقيقة في عصر الإمام الصادق (ع).



انتهينا في الأبحاث الماضية إلي ان هدف جميع الأئمة (عليهم السلام) بما فيهم الإمام السجاد (ع) كان إقامة الحكومة الإسلامية، وأن تحقيق هذا الهدف استلزم من الإمام السجاد (ع) القيام بثلاثة أدوار، بدونها لن يكون هناك إمكانية لإقامة هذه الحكومة.



الأول: تعريف الناس علي الفكر الإسلامي الأصيل. هذا الفكر الذي دفن تحت تراب النسيان نتيجة حكم الظالمين طوال ذلك الزمان، أو تعرّض للتحريف في عقول المسلمين. فكان علي الإمام السجاد (ع) أن يقوم بتعريف الناس علي الحقائق الإسلامية والاصول الدينية بكل ما أمكنه من قوة وبأكبر درجة تصل إليها أمواج كلماته وتعاليمه.



الثاني: تعريف الناس علي حقيقة قضية الإمامة، وبتعبير آخر بيان مسألة الحكومة الإسلامية والحكم الإسلامي الحقيقي، وتوعية المجتمع الإسلامي علي حقيقة مجريات ذلك الزمان الذي شهد حكم الظالمين والكفار والفاسقين، وإفهامه بأن حكومة عبدالملك وأمثالها ليست الحكومة التي يريدها الإسلام. فمادام الناس غير مدركين لهذه القضية ولم يخرجوا من حالة التخدير التي تفاقمت علي مرور الزمان، فإن إقامة الحكومة التي يريدها الإمام السجاد (ع) سوف تبقي غير ممكنة.



الثالث: تشكيل مجموعة لتأسيس حزب يكون أعضاؤه كوادر أساسيين لجهاز الإمامة.



وبهذه الأمور الثلاثة سوف تتهيأ أرضية إقامة الحكومة الإسلامية والنظام الإسلامي.



لقد قلت سابقاً وأؤكد ما قلته الآن بأن الإمام السجاد (ع) لم يكن يري أنه سيتم تحقيق الحكومة الإسلامية في زمانه (وهذا بخلاف ما عمل لأجله الإمام الصادق (ع) في زمانه)، لأنه كان معروفاً بأن الأرضية في زمان الإمام السجاد (ع) لم تكن معدة لذلك، فقد كان الظلم والقمع والجهل أكبر من أن يزول خلال هذه السنوات الثلاثين. لقد كان الإمام السجاد (ع) يعمل للمستقبل. ومن خلال القرائن العديدة نفهم أيضاً أنه حتي الإمام الباقر (ع) لم يكن يهدف إلي إقامة حكومة إسلامية في زمانه، أي أنه منذ سنة 61 حتي 95 هــ (شهادة الإمام السجاد (ع)) ومنذ سنة 95 حتي 411 هــ (شهادة الإمام الباقر (ع)) لم يسعَ كل منهما إلي إقامة حكومة إسلامية في زمانه، ولهذا كانا يعملان علي المدي البعيد.



وسوف نستشهد علي ما قلناه بكلمات وبيانات الإمام السجاد (ع) لأنها أفضل المصادر وأكثرها أصالة للتعريف علي سيرة وحياة الإمام السجاد (ع) بل علي حياة كل الأئمة (ع). غاية الأمر ــ وكما أشرنا سابقاً ــ أننا نفهم هذه البيانات بصورة صحيحة عندما نطلع علي حركة الأئمة ومقصدهم من الجهاد والمواجهة والسعي والسير، وبغير هذه الصورة قد نفهم معاني هذه الكلمات، التي سوف أبيّنها، بشكل سيّئ.



والآن بعد أن اطّلعنا علي بعض تلك الحوادث والتي استفدناها ببركة بيانات الأئمة (ع) وكلماتهم، سوف نعتمد الآن علي نفس المصادر وسنري أية استفادات صحيحة نحصّلها.



قبل أن ندخل في صلب البحث ينبغي أن نذكّر بنقطة قصيرة وهي أنه بسبب مرحلة القمع الشديد التي كان يعيشها الإمام السجاد (ع)، لم يستطع أن يبيّن لنا تلك المفاهيم بصورة واضحة، ولذلك كان يستفيد من أسلوب الموعظة والدعاء (خاصة أدعية الصحيفة السجادية التي سوف نتعرض لها فيما بعد والبيانات والروايات التي نقلت عن الإمام (ع) والتي كان يطغي عليها لحن الموعظة) حيث كان الإمام من ضمن بيان الموعظة والنصيحة يبيّن ما أشرنا إليه سابقاً، وبهذا اتّبع الإمام السجاد (ع) منهجاً حكيماً وشديد الحذاقة. وبذلك الاسلوب الذي ظاهره موعظة الناس ونصحهم أدخل الإمام (ع) إلي أذهانهم ما يريده، وهذا من أفضل أشكال التعاطي الأيديولوجي والفكري الصحيح.



ما سنقوم بدراسته هنا هو كلمات الإمام السجاد (ع) الواردة في كتاب “تحف العقول” حيث سنشاهد عدة أنواع من الاسلوب المذكور والتي تشير إلي طبيعة الجهات المخاطبة.



أحد تلك الأنواع، البيانات الموجّهة لعامة الناس والتي يظهر فيها أن المستمع ليس من الجماعة المقربة والخاصة للإمام أو من الكوادر التابعين له. وفي هذه الخطابات يستند الإمام (ع) دائماً إلي الآيات القرآنية، لماذا؟ لأن عامة الناس لا ينظرون إلي الإمام السجاد (ع) كإمام، بل يطلبون الدليل في كلماته، ولهذا كان الإمام يستدل إمّا بالآيات أو بالاستعارة من الآيات، حيث استخدم هذا الأسلوب في أكثر من 50 مورداً ذكر في تلك الروايات.



ولكن في الخطاب الموجّه إلي المؤمنين نجد الأمر مختلفاً، لأن هؤلاء المؤمنين يعرفون الإمام السجاد (ع) وقوله مقبول عندهم، ولهذا لم يكن يستند في كلامه إلي الآيات القرآنية. ولو أحصينا كل كلامه الموجه إليهم لوجدنا أن استخدام الآيات القرآنية فيه قليل جداً.



في رواية مفصّلة في كتاب “تحف العقول” تحت عنوان: “موعظة لسائر أصحابه وشيعته وتذكيره إياهم كل يوم جمعة”، حيث نجد هنا أن دائرة المستمعين واسعة، وهذا ما نستنتجه من القرائن المفصلة الواردة فيها.



ففي هذه الرواية لم يستخدم الإمام كلمة “أيها المؤمنون” أو “أيها الإخوة” حتي نعلم أن خطابه موجه إلي جماعة خاصة، ولكنه قال "أيها الناس" وهذا يشير إلي عمومية الخطاب.



ثانياً: لا يوجد في هذه الرواية تصريح بشيء معارض للجهاز الحاكم، بل انصرف كل الخطاب لبيان العقائد، وما ينبغي ان يعرفه الإنسان وذلك بلسان الموعظة.



فالخطاب يبدأ هكذا: "أيها الناس، اتّقوا الله واعلموا أنكم إليه راجعون.." ثم يتطرق الإمام (ع) إلي العقائد الإسلامية ويوجّه الناس إلي ضرورة فهم الإسلام الصحيح. وهذا يدل علي أنهم لا يعرفون الإسلام الصحيح، حيث يوقظ بهذا البيان الدافع لمعرفة الإسلام الصحيح بين الناس.



انظروا مثلاً كيف يستفيد الإمام السجاد (ع) من أسلوبه الجذاب، حيث يقول: "ألا وإن أول ما يسألانك عن ربك الذي كنت تعبده"، وبهذا يريد أن يوقظ فيهم الدافع لمعرفة الله وفهم التوحيد، "وعن نبيّك الذي أرسل إليك"، ثم الدوافع لفهم النبوة، "وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه..." وفيها، وأثناء عرضه لهذه العقائد الأصيلة وهذه المطالب الاساسية للإسلام كالتوحيد والنبوة والقرآن والدين، يبيّن هذه النقطة الاساسية بقوله (ع): "وعن إمامك الذي كنت تتولاه". فهو هنا يطرح موضوع الإمامة، وقضية الإمامة عند الأئمة تعني قضية الحكومة، إذ لا يوجد فرق بين الولاية والإمامة علي لسان الأئمة (ع). وإن كان للولي والإمام معانٍ مختلفة عند البعض، ولكن هاتين القضيتين ــ الولاية والإمامة ــ علي لسان الأئمة أمر واحد والمراد منهما واحد. وكلمة “الإمام” المقصودة هنا تعني ذلك الإنسان المتكفل بإرشاد الناس وهدايتهم من الناحية الدينية، وأيضاً المتكفّل بإدارة أمور حياتهم من الناحية الدنيوية، أي خليفة النبي (ص).



الناس في إيران وفي الفترة السابقة لعهد الإمام (الخميني) لم يكونوا يعرفون المعني الحقيقي للإمام ولكن الشعب اليوم أصبح يفهم معناها جيداً. فنحن نقول ان الإمام بمعني قائد المجتمع، أي ذلك الإنسان الذي نتعلم منه ديننا وتكون بيده أيضاً إدارة دنيانا، بحيث تكون إطاعته في أمور الدين وأمور الدنيا واجبة علينا.



ولحسن الحظ أن هذا المعني “للإمام” قد ركز في أذهان الناس بعد الثورة.



في عالم التشيّع تعرضت هذه القضية (دور الإمام) إلي فهم خاطئ؛ ففي السابق كان الناس يتصوّرون أنّ هذا الفرد الواحد هو الذي يحكم المجتمع وهو الذي ينبغي أن يدير أمور الحياة بيده وبجهده الخاص، فيحارب ويصالح ويعمل وينفذ كل طلب هو بنفسه، فهو يأمر الناس وينهاهم من جهة، وفي نفس الوقت هو الذي ينفّذ هذه الأمور وحده لإصلاح دينهم! واليوم أيضاً تعرّضت هذه القضية للفهم الخاطئ بحيث أصبحنا نعتبر أن الإمام في عصر الغيبة ما هو إلاّ عالم ديني، وهذا بالطبع تصور خاطئ.