بازگشت

التنظيمات السرية


لو أردنا أن نفصل هذه القضية المذكورة أكثر لكانت علي هذا النحو:



بعد واقعة شهادة الإمام الحسين (ع) صار الناس في خوف ورعب، لكن ليس إلي درجة أن لا يبقي للتنظيمات التي أعدها أتباع الأئمة باقية، ودليل ذلك أننا نري أنه في الوقت الذي جاؤوا بأسري كربلاء إلي الكوفة، شوهدت التحركات التي تدل علي وجود التنظيمات الشيعية.



وبالطبع عندما نتحدث عن “التنظيمات الشيعية السرية” لا نقصد النمط الموجود للتنظيمات في هذا العصر، بل المقصود تلك الروابط العقائدية التي كانت تصل الناس بعضهم ببعض وتحملهم علي التضحية والأعمال السرية، والتي تؤلف في أذهاننا مجموعة واحدة.



في تلك الأيام التي كان أهل البيت (ع) في الكوفة وفي إحدي الليالي يسقط حجر في السجن الذي كانوا فيه. وإذا بالحجر ورقة كتب عليها: “لقد أرسل حاكم الكوفة رجلاً إلي يزيد في الشام حتي يعلم ماذا يفعل بكم، فإذا سمعتم غداً ليلاً صوت تكبير فاعلموا أنكم ستقتلون هاهنا، وإذا لم تسمعوا فاعلموا أن الوضع سيتحسن”.



عندما نسمع مثل هذه القصة ندرك جيداً وجود شخص من أعضاء هذه التنظيمات داخل الجهاز الحاكم لابن زياد وهو مطلع علي ما يجري. ويمكنه أن يصل إلي السجن ويوصل صوته إليه.



مثال آخر: عبدالله بن عفيف الأزدي الرجل الأعمي الذي قام بردة الفعل الأولي عند ورود الأسري إلي الكوفة وأدي ذلك إلي استشهاده. وكذلك ما كنّا نري في الشام عند اللقاء بأهل البيت من البكاء والملامة، وهذه الحوادث تكررت حتي في مجلس يزيد أيضاً.



بناء علي هذا، فمع وجود الرعب الشديد بعد هذه الحادثة لم يتحطم نظام عمل الشيعة ولم يتفرقوا أشد التفرق. ولكن بعد وقوع حوادث أخري ازداد جوّ القمع أكثر. ومن هنا يمكن ربط الحديث "ارتد الناس بعد الحسين..." بالحوادث التي وقعت بعده.



وخلال هذه المرحلة ــ قبل وقوع الحوادث الأخري ــ قام الشيعة بإعادة الانسجام السابق والاستعداد.



وينقل الطبري قائلاً:



“فلم يزل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد لها”. وهو يقصد الشيعة في طلب الثأر لدماء الحسين بن علي (ع). وازداد عددهم يوماً بعد يوم حتي مات يزيد بن معاوية.



ولهذا نجد مع كل هذا الضغط والقمع الشديد ازدياد التحركات ــ كما ينقل الطبري ــ ولعله إشارة لهذا الدليل يقول مؤلف كتاب “جهاد الشيعة” (وهو كاتب غير شيعي ولا يمتلك رؤية واقعية تجاه الإمام السجاد (ع) ولكنه أدرك هذه الحقيقة):



“أصبح الشيعة بعد شهادة الحسين (ع) كتنظيم واحد تجمعهم الاعتقادات والروابط السياسية ويعقدون الاجتماعات، ولهم القادة والقوي العسكرية. وكان التوّابون أول مظهر لهذه التنظيمات”.



إذن نشعر أنه مع تسلّل الضعف إلي التنظيمات الشيعية إثر حادثة عاشوراء، فإن التحركات الشيعية في مقابل هذا الوضع استمرت بنشاط لإعادة هذا التنظيم إلي سابق عهده، إلي أن جرت “واقعة الحرة”. وبرأيي فإن واقعة الحرة كانت مفصلاً عظيماً في تاريخ التشيع وضربة كبيرة جداً له.



لقد جرت هذه الواقعة سنة 63 للهجرة. وتفصيلها باختصار أنه في سنة 62 هــ وُلّي أحد شباب بني أمية علي المدينة ففكر لاستمالة قلوب الشيعة في المدينة أن يدعو بعضهم إلي ملاقاة يزيد. فدعا بعض أشراف المسلمين والصحابة ــ الذين كانوا في معظمهم من محبي الإمام السجاد (ع) ــ إلي الشام للقاء يزيد والاستئناس به. فذهبوا إلي الشام والتقوا به حيث مكثوا عدة أيام. وأعطاهم يزيد مبالغ كبيرة من المال (بمقدار 50 الف درهم أو مئة الف) ثم رجعوا إلي المدينة.



عندما عادوا إلي المدينة ــ ولأنهم رأوا الفجائع في بلاط يزيد ــ بدأوا بانتقاده والتهجم عليه. وانقلبت القضية، فبدلاً من مدحه والثناء عليه بدأوا بالتشهير به وقالوا للناس: كيف يمكن أن يكون يزيد خليفة وهو شارب للخمر ويلاعب الكلاب والقردة ويمارس أنواع الفسق والفجور. إننا نخلعه عن الخلافة.



وكان علي رأس هؤلاء عبدالله بن حنظلة الذي دعا الناس إلي القيام علي يزيد وخلعه. فأدت هذه الحركة إلي أن يأمر يزيد أحد قادته من بني أمية ويدعي “مسلم بن عقبة” بالإسراع إلي المدينة وإخماد الثورة فيها. فقدم ابن عقبة وحاصرها عدة أيام ثم دخلها وارتكب فيها أبشع وأفجع الجرائم التي لم يحدث مثلها في تاريخ الإسلام.



وقد عرف بعد هذه الحادثة المفجعة باسم “مسرف بن عقبة”.



مجريات وتفاصيل هذه الحادثة كثيرة ولا أريد هنا أن أشرح ما جري، ولكن يكفي أن أقول أنها أصبحت أكبر وسيلة لإرعاب محبي وأتباع أهل البيت، خاصة في المدينة التي هرب منها من هرب وقتل آخرون، بعضهم من أصحاب أهل البيت الخيرين كعبد الله بن حنظلة.



لقد وصل هذا الخبر إلي كافة أقطار العالم وعُلِم أن النظام الحاكم سوف يقف بقوة أمام أية حركة من هذا القبيل.



الحادثة الأخري التي أدت إلي إضعاف الشيعة هي حادثة شهادة المختار في الكوفة وتسلط عبدالملك بن مروان علي كافة العالم الإسلامي.



فبعد موت يزيد، تبعه خلفاء لم يدوموا في الحكم إلاّ فترات قليلة كمعاوية بن يزيد الذي لم يحكم أكثر من ثلاثة أشهر، ثم مروان بن الحكم الذي حكم لمدة سنتين أو أقل، ثم وصل الأمر إلي عبدالملك الذي كان أكثرهم تدبيراً كما جاء بشأنه:



“كان عبدالملك أشدهم شكيمة وأقساهم عزيمة”.



فاستطاع أن يقبض علي زمام أمور العالم الإسلامي بيده ويوجد نظاماً إرهابياً وقمعياً، وكان امساكه بزمام الأمور متوقفاً علي القضاء علي خصمائه؛ فالمختار الشيعي قد صُفّي قبل مجيئه علي يد مصعب بن الزبير، ولكن عبدالملك أراد أن يضع نهاية لاستمرار حركة المختار وغيره في عالم التشيع. وبالفعل قام بذلك، حتي عاني الشيعة في العراق وخاصة الكوفة التي كانت في ذلك الوقت أهم مراكزهم أشد معاناة.



علي كل حال، لقد بدأت هذه الحوادث من واقعة كربلاء ثم تتالت: من قبيل واقعة الحرة والقضاء علي حركة التوابين في العراق وشهادة المختار وشهادة إبراهيم بن مالك الأشتر النخعي وآخرون عظام من الشيعة. وبشهادتهم طغي جوّ من القع والخمود الشديد علي المراكز الشيعية في المدينة والكوفة وحلت غيوم الغربة والوحدة علي المكان.