بازگشت

تحف من بعض علومه


كان الإمام زين العابدين من أوسع الناس علماً، ومن أكثرهم دراسة في جميع العلوم والفنون. وقد ورث هذه العلوم عن آبائه الذين ورثوا علوم النبي المصطفي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ونشروها في جميع أنحاء الأرض فكانت نوراً يهتدي بها جميع الناس من قريب وبعيد. فعلوم الإمام السجاد (عليه السّلام) تعد امتداداً ذاتياً لعلوم آبائه. وقد روي العلماء والرواة عنه ما لا يحصي من العلوم(1). وسوف نعرض بعض علومه ومعارفه، كان يلقيها محاضرات علي العلماء والفقهاء وطلاب العلم من تلامذته.



في رحاب القرآن:



كان الإمام السجاد (عليه السّلام) شغوفاً بتلاوة القرآن الكريم لأنه يجد فيه متعة خاصة لا تعد لها أي متعة. قال (عليه السّلام): (لو مات من بين المشرق والمغرب ما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي)(2).



كما كان (عليه السّلام) من أحسن الناس صوتاً في تلاوة القرآن الكريم فلا يكاد يسمعه أحد إلا ويتأثر به، يقول الرواة: (إن السقائين الذين يمرون ببابه كانوا يقفون لاستماع صوته)(3).



ولا ريب أن الإمام السجاد (عليه السّلام) لم يقرأ القرآن الكريم قراءة عابرة، وإنما كان يتلو آياته بتدبر وإمعان، ويتأمل تأملاً هادئاً بما انطوت عليه من كنوز الحكمة وأنوار المعرفة. وهو القائل (عليه السّلام): (آيات القرآن خزائن كلما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها)(4).



وعندما يختم القرآن الكريم كان يدعو الله مبتهجاً بهذا الدعاء الشريف:



(اللهم إنك أعنتني علي ختم كتابك الذي أنزلته نوراً وجعلته مهيمناً علي كل كتاب أنزلته، وفضلته علي كل حديث قصصته، وفرقاناً فرقت به بين حلالك وحرامك وقرآناً أعربت به عن شرائع أحكامك، وكتاباً فصلته لعبادك تفصيلاً، ووحياً أنزلته علي نبيك محمد صلواتك عليه وآله تنزيلاً، وجعلته نوراً نهتدي من ظلم الضلالة والجهالة باتباعه، وشفاءً لمن أنصت بفهم التصديق إلي استماعه، وميزان قسط لا يحيف(5) عن الحق لسانه، ونور هدي لا يطفأ عن الشاهدين برهانه، وعلم نجاة لا يضل من أمَّ قصد سنته، ولا تنال أيدي الهلكات من تعلق بعروة عصمته. ويتابع دعاءه (عليه السّلام):



اللهم فإذا أفدتنا المعونة علي تلاوته، وسهلت جواسي(6) ألسنتنا بحسن عبادته فاجعلنا ممن يرعاه حق رعايته، ويدين لك باعتقاد التسليم لمحكم آياته، ويفزع إلي الإقرار بمتشابهه، وموضحات بيناته، اللهم إنك أنزلته علي نبيك محمد (صلّي الله عليه وآله وسلّم)، وألهمته علم عجائبه مكملاً، وورثتنا علمه مفسراً، وفضلتنا علي من جهل علمه، وقويتنا عليه لترفعنا فوق من لم يطق حمله.



اللهم فكما جعلت قلوبنا له حملة، وعرفتنا برحمتك شرفه وفضله، فصل علي محمد الخطيب به، وعلي آله الخزان له، واجعلنا ممن يعترف بأنه من عندك حتي لا يعارضنا الشك في تصديقه، ولا يختلجنا الزيع عن قصد طريقه)(7).



تحدث سليل النبوة عن القرآن المعجزة الكبري فقال (عليه السّلام): إن الله عز وجل أنزل كتابه هذا نوراً يهدي به الضالين إلي الصراط المستقيم ويوضح به القصد لكل المؤمنين ويرشد به الحائرين إلي سواء السبيل.



كما جعله سبحانه وتعالي مهيمناً علي جميع الكتب التي أنزلها علي أنبيائه المرسلين وما حدث فيها من تبديل وتحريف من قبل دعاة الضلال والمنحرفين.



يُعتبر القرآن الكريم منهجاً عاماً للحياة الحرة الكريمة، ودستوراً شاملاً يفرق بين الحق والباطل (فرقان) ويعرب عن شرائع الأحكام مفصلاً جميع ما يحتاجه الناس تفصيلاً كاملاً لا لبس فيه ولا غموض.



إن الذكر الحكيم أنزل وحياً علي الرسول الأمين من رب العالمين بالقسط والعدل بعيداً عن المصالح الشخصية والأغراض الدنيوية الرخيصة.



ثم طلب الإمام السجاد (عليه السّلام) من الله تعالي أن يتفضل عليه برعاية كتابه والتسليم لمحكم آياته، والإقرار بمتشابهاته.



وأخيراً منح الله سبحانه وتعالي رسوله الأعظم خاتم النبيين عجائب ما في كتابه المعجزة من أسرار، فألهمه القدرة علي شرحه وتفسيره، كما أشاد بأئمة الهدي من العترة الطاهرة الذين رفعهم الله وأعلي درجتهم، فجعلهم خزنة علمه، وقيضهم أعلاماً يقتدي بهم ويقتص أثرهم، وبذلك كله حياة الدين وقوام الصالح العام والسعادة الكبري للناس أجمعين.



وهذه نماذج من تفسيراته لبعض آيات من القرآن الكريم:



1 - أثر عنه أنه سئل (عليه السّلام) عن تفسير الآية الكريمة: (ورتل القرآن ترتيلا) [سورة المزمل: الآية4]. فأجاب: بيّنه في تلاوته تبييناً ولا تنثره نثر البقل، ولا تهذه هذي الشعر، قفوا عند عجائبه لتحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.



2 - روي الإمام الصادق (عليه السّلام) عن جده الإمام زين العابدين (عليه السّلام) تفسير الآية الكريمة (يقبل التوبة من عباده، ويأخذ الصدقات) [سورة التوبة: الآية105].



قال (عليه السّلام): ويأخذ الصدقات، إني ضامن علي ربي تعالي أن الصدقة لا تقع في يد العبد حتي تقع في يد الرب تعالي...وكان يقول: ليس من شيء إلا وكل به ملك، إلا الصدقة فإنها تقع في يد الله.



3 - وسئل (عليه السّلام) عن تفسير الآية الكريمة: (ادخلوا في السلم كافة) [سورة البقرة: الآية208]. السلم هو ولاية الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السّلام)(8). ولا ريب أن عهد أمير المؤمنين، باب مدينة العلم، هو السلم الحقيقي الذي ينعم الناس في ظلاله بالأمن والرخاء والعدل والاستقرار، ولو أن المسلمين دانوا بعهده (عليه السّلام) بعد وفاة النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) لما أصابهم أي مكروه ولما داهمتهم أية أزمات في حياتهم السياسية والاجتماعية والدينية والقضائية. لكن أكثر المسلمين آثروا الحياة الدنيا وعزتهم المناصب حتي حدث ما حدث.



4 - وسئل (عليه السّلام) عن تفسير الآية الكريمة: (وأشرقت الأرض بنور ربها وجيء بالنبيين والشهداء) [سورة الزمر: الآية69]. فأجاب الإمام بجواب مطول عن أهوال يوم القيامة قال (عليه السّلام): (إذا كان يوم القيامة بعث الله الناس عزلاً، جرداً، مرداً، صعيد في واحد يسوقهم النور، وتجمعهم الظلمة حتي يقفوا علي عتبة المحشر، فيزدحمون دونها، ويمنعون من المضي، فتشتد أنفاسهم، ويكثر عرقهم، وتضيق بهم أمورهم، ويشتد ضجيجهم، وترتفع أصواتهم، وهو أول هول من أهوال القيامة، فعندما يشرف الجبار تبارك وتعالي من فوق العرش، ويقول:



يا معشر الخلائق أنصتوا، واسمعوا منادي الجبار، فيسمع آخرهم كما يسمع أولهم، فتخشع قلوبهم، وتضطرب فرائصهم، ويرفعون رؤوسهم إلي ناحية الصوت مهطعين إلي الداعي، ويقول الكافرين: هذا يوم عسير فيأتي النداء من قبل الجبار: أنا الله لا إله إلا أنا، أنا الحكم الذي لا يجور، أحكم اليوم بينكم بعدلي وقسطي، لا يظلم اليوم عندي أحد آخذ للضعيف من القوي، ولصاحب المظلمة بالقصاص من الحسنات والسيئات، وأثيب علي الهبات ولا يجوز هذه العقبة ظالم. ولا أحد عنده مظلمة يهبها لصاحبها، إلا وأثيبه عليها، وآخذ له بها عند الحساب واطلبوا مظالمكم عند من ظلمكم بها في الدنيا، وأنا شاهدكم وكفي بي شهيداً)(9).



ثم يعرض الإمام (عليه السّلام) بصورة شاملة أهوال يوم القيامة بكل ما فيها من مخاوف وكل ما يعاني فيها الإنسان من إرهاق كبير وخطوب فادحة.



5 - وسئل (عليه السّلام) عن معني كلمة (الصمد) فقال: الصمد الذي لا شريك له، ولا يؤده حفظ شيء، ولا يعزب عنه شيء)(10).



6 - وسئل (عليه السّلام) عن تفسير الآية الكريمة: (واشتروا بثمن بخس دراهم)(11). فقال: بأن الثمن البخس اشتروا به يوسف كان عشرين درهماً(12).



7 - وسئل (عليه السّلام) عن تفسير الآية الكريمة: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً) [سورة المائدة: الآية 21] فأجابه بقوله: (إن هابيل تقرب إلي الله تعالي بأسمن كبش كان في حيازته، وتقرب قابيل بضغث من سنبل فقبل الله تعالي من هابيل، ولم يقبل من قابيل، فوسوس إبليس لقابيل، بأن أولاد هابيل سيفخرون علي أولادك ويقولون: بأنهم أبناء من قبل الله قربانه، وتحكم فيه هذا الخيال حتي حسد قابيل أخاه هابيل، وعزم علي قتله لئلا يكون منه نسل، ولم يدر كيف يصنع؟ فعلمه إبليس أن يضع رأسه بين حجرين ويقتله، ففعل ذلك ولم يدر كيف يواريه، حتي جاء غرابان، واقتتلا ثم حفر أحدهما للآخر وواراه، وقابيل ينظر إليه، فقام وحفر لهابيل ودفنه، وأصبح من النادمين، وصار هذا سنة في دفن الموتي.



ولما سأله آدم عن أخيه هابيل، قال له: أجعلتني راعياً له؟ ثم جاء به إلي مكان القربان فاستبان له أنه قتله، فلعن قابيل، وأمر بلعنه، وبكي علي ولده أربعين سنة حتي أوحي الله إليه أني واهب لك ذكراً يكون خلفاً عن هابيل، فولدت له حواء غلاماً زكياً مباركاً، وفي اليوم السابع أوحي الله إليه أن سمه (هبة الله) فسماه بذلك(13).



8 - قال عيد بن جبير: سألت الإمام زين العابدين (عليه السّلام) عن القربي في الآية الكريمة: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربي)(14). فقال (عليه السّلام): هي قرابتنا أهل البيت(15).



9 - روي الإمام محمد الباقر عن أبيه (عليهما السّلام) في تفسير الآية الكريمة: (الذي جعل لكم الأرض فراشاً)(16).



قال: لقد جعل الله تعالي الأرض ملائمة لطباعكم، موافقه لأجسادكم، ولم يجعلها شديدة الحمأ(17) والحرارة فتحرقكم، ولا شديدة البرودة فتجمدكم، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم، ولا شديدة النتن فتعطبكم(18)، ولا شديدة اللين كالماء، فتغرقكم، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم، وقبور موتاكم، ولكنه عز وجل جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به، وتتماسكون، وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم، وجعل فيها ما تنقاد به لدوركم، وقبوركم، وكثير من منافعكم، فلذلك جعل الأرض فراشاً لكم، ثم قال عز وجل (والسماء بناءً)، أي سقفاً من فوقكم، محفوظاً يدير فيها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم، ثم قال عز وجل: (فأخرج من الثمرات رزقاً لكم) يعني مما يخرجه من الأرض رزقاً لكم (فلا تجعلوا لله أنداداً) أي أشباهاً وأمثالاً من الأصنام التي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تقدر علي شيء.



(وأنتم تعلمون) أنها لا تقدر علي شيء من هذه النعم الجليلة التي أنعمها عليكم ربكم تبارك وتعالي(19).



حفلت هذه القطعة الكريمة من كلام الإمام زين العابدين (عليه السّلام) بأروع أدلة التوحيد، فأعطت صورة مشرقة كاملة من سر خلق الله للأرض، فقد خلقها سبحانه بكيفية رائعة فليست صلبة ولا شديدة اللين وذلك ليسهل علي الإنسان العيش عليها والانتفاع بخيراتها التي لا تحصي...



إن الأرض بما فيها من العجائب كالجبال والأودية والبحار والأنهار والمعادن المختلفة الأنواع وغير ذلك، من أعظم الأدلة وأوضحها علي وجود الخالق العظيم الحكيم، قال تعالي: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) [سورة القمر: الآية49].



كما استدل الإمام (عليه السّلام) علي عظمة الخالق سبحانه وتعالي بخلقه السماء وما تحوي من شمس وقمر وسائر الكواكب التي تنير هذه الأرض بأنوارها. وكلنا يعلم ما لأشعة الشمس من أثر بالغ في تكوين الحياة النباتية. وما لأشعة القمر من أثر علي البحار في مدها وجزرها، وكذلك الحال بالنسبة لسائر الكواكب فإن لأشعتها هي أيضاً الأثر التام في منح الحياة العامة لجميع الموجودات الحيوانية والنباتية في الأرض وما نلفت إليه أن هذه الظواهر الكونية لم تكتشف إلا في هذه العصور الحديثة إلا أن الإمام زين العابدين (عليه السّلام) ألمح إليها في كلامه، فكان بلا ريب هو وأبناؤه وآباؤه المعصومون الرواد الأوائل الذين رفعوا راية العلم وساهموا مساهمة فعالة في تكوين الحضارة الإنسانية.



ثم أشار الإمام (عليه السّلام) إلي العناية الإلهية في سقوط المطر وكيف يتساقط بصورة رتيبة وفي أوقات خاصة، وذلك لإحياء الأرض، وإخراج الثمرات والطيبات. ولو هطلت هذه الأمطار دفعة واحدة لأهلك الحرث والنسل. قال تعالي: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم)(20).



بعدما أقام الإمام (عليه السّلام) الأدلة المحسوسة علي وجود الخالق الحكيم دعا إلي عبادته سبحانه وتعالي ونبذ الأصنام والأوهام التي تشل الفكر وتعيق حركة الوعي وتفقد أي قدرة علي تصريف شؤون الحياة وإدارة هذا الكون إدارة حكيمة عادلة.



10 - سأل رجل الإمام زين العابدين (عليه السّلام) عن الحق المعلوم الذي ورد في قوله تعالي: (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم)(21).



فقال (عليه السّلام): (الحق المعلوم الشيء الذي يخرجه من ماله ليس من الزكاة والصدقة المفروضتين. فقال له الرجل: فما يصنع به؟ فقال (عليه السّلام): يصل به رحماً، ويقوي به ضعيفاً ويحمل له كله أو يصل أخاً له في الله، أو لنائبة تنوبه.



وبهر الرجل من علم الإمام وراح يقول له: الله أعلم حيث يجعل رسالته في من يشاء(22).



في رحاب الحديث الشريف:



لا يخفي ما للحديث الشريف من أهمية كبري في العلوم الإسلامية فهو يعرض بصورة موضوعية وشاملة لتفصيل الأحكام الشرعية الواردة في القرآن الكريم، كما يعرض لمعظم الفقه الإسلامي فيذكر الواجب والحرام والمستحب والمكروه والممنوع والمباح ويوضح عموميات كتاب الله ومطلقاته فيقيدها ويخصصها. إلي جانب ذلك يتناول الحديث الشريف آداب السلوك وقواعد الأخلاق وكل ما يسعد الإنسان في حياته الشخصية وعلاقاته الاجتماعية.



والإمام زين العابدين (عليه السّلام) كان من أعظم الرواة وأهمهم في الإسلام، ورواياته لها أهمية خاصة عند علماء الحديث وبصورة خاصة ما يرويه الزهري عنه. قال أبو بكر بن أبي شيبة: أصح الأسانيد الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب. وقد روي مجموعة كبيرة من الأحاديث عن جديه الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله وسلّم) والإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وعن أبيه الحسين (عليه السّلام) وغيرهم..



وسوف نورد كوكبة مشرقة من الأحاديث رواها الإمام (عليه السّلام) بسنده عن جده رسول الله(صلّي الله عليه وآله وسلّم).



1 - روي الإمام (عليه السّلام) أن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: (الإيمان قول وعمل)(23).



لا يخفي أن الإيمان بالله تعالي وبرسله ليس ظاهرة لفظية يردده اللسان وإنما هو عمل وجهاد يترجم ما استقر في دخائل النفس من إيمان عميق. واتحاد القول بالعمل أمر ضروري في نجاح الحياة وتطورها. جاء في كتاب (لأنك حبيبتي) للدكتور أسعد علي قوله: عندما يتحد القول بالعمل ينجبان صبياً يسميانه الصدق. وعندما يتحد القول بالعمل يرزقان بنتاً يسميانها الوفاء، ويلعب الجميع لعبة أظنها الحرية. أمر مهم جداً أن يؤمن الإنسان والأمر الأهم أن يترجم هذا الإيمان إلي عمل.



2 - روي (عليه السّلام) أن النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال:



(الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب وعمل بالأركان)(24).



فالإيمان يترجم بثلاثة أركان:



الأول: الإقرار باللسان الذي يترجم ما انطبع في أعماق النفس.



والثاني: أن يعرف القلب(25) الشيء الذي آمن به معرفة تفصيلية فإذا لم تكن هناك معرفة، فإن الإيمان به ينتفي موضوعياً.



والثالث: أن يصحب ذلك العمل بالأركان فيترجم أعمالاً صالحة.



3 - وروي الإمام (عليه السّلام) أن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: (والذي نفسي بيده ما جمع شيء إلي شيء أفضل من حلم إلي علم)(26) العلم مع الحلم من الصفات الأصيلة التي تتغذي بها شخصية الإنسان فتنمو وتتطور وتزدهر.



والعلم والحلم صنوان متلازمان لا يفيد الواحد منهما دون الآخر. فالعصر الجاهلي سمي كذلك لأنه يفتقد إلي الحلم، فقد كان النزق والطيش والحمق تسيطر جميعها علي عامة الجاهليين، كما كانت الحروب تشتعل لأتفه الأسباب، كل ذلك لعدم وجود الحلم والروية. ولما بزغ نور الإسلام أنقذهم من جهلهم وطيشهم وأوصلهم إلي شاطئ الأمان بالحلم والعلم معاً.



4 - وروي الإمام (عليه السّلام) عن أبيه عن جده أمير المؤمنين (عليهم السّلام): أن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: (لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتي يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت..)(27).



حفل هذا الحديث الشريف بعدة أمور تحذر الإنسان قبل أن يدركه ملاك الموت ويبدأ بالندم وتصعيد الحسرات.



أ - فالإنسان يسأل أمام الله تعالي في يوم حشره، يوم الحساب عن أيام عمره كيف قضاها، فهل أفناها في طاعة الله ورضوانه حتي يثاب علي ذلك، أم أنه أنفقها في اقتراف المنكرات وفي معصية الله لينال جزاءه ويكسب رضاه؟



ب - ويسأل أيضاً عن شبابه أفضل أيام حياته وأنشطها، هل انطوت في المعاصي والأعمال المنكرة ليعاقب عليها، أم في طاعة الله والأعمال الصالحة ليثاب عليها؟



ج - ويسأل الإنسان يوم الحشر والنشر عن أمواله، هل اكتسبها بالطرق الحلال المشروعة، وهل أنفقها في ما يرضي الله ليشكر في الدنيا ويؤجر عليها في الآخرة؟، أم أنه اكتسبها بطرق حرام غير مشروعة كأكل المال بالباطل والربا وتجارة المخدرات وغيره، وهل أنفقها في معاصي الله ومحرماته ليعاقب عليها؟ قال تعالي: (كل نفس بما كسبت رهينة) [سورة المدثر: الآية38]. وقال تعالي: (...لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت)[سورة البقرة: الآية 286].



وفي نهاية الحديث: يسأل الإنسان يوم الحساب عن محبته لأهل البيت أعلام الهدي وسفينة النجاة وأمن العباد وأنوار الحياة. فهم المجاهدون الأبرار الذين جاهدوا من أجل إحقاق الحق ورفع الظلم ونشر الرسالة الإسلامية في شتي أنحاء الأرض. فمن أبغضهم فقد أبغض الحق ومن أبغض الحق فقد أبغض الله، ومن أحبهم فقد أحب الحق ومن أحب الحق فقد أحب الله.



5 - وقال (عليه السّلام): كان رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) يقول في آخر خطبته: (طوبي لمن طاب خلقه، وطهرت سجيته، وصلحت سريرته وحسنت علانيــته، وأنــفق الفــضل من ماله، وأمسك الفــضل من قــوله، وأنــصف النــاس من نفسه)(28).



دعا الإسلام إلي التخلق بالأخلاق الحسنة والالتزام بالصفات النبيلة والنبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) دعا المسلمين إلي الاتصاف بمحاسن الصفات فأوجز في هذا الحديث الشريف أموراً عدة:



أ - التخلق بالأخلاق الحسنة.



ب - طهارة النفس والضمير.



ج - التحلي بالفضائل النبيلة والآداب العالية.



هـ - حفظ اللسان وعدم الخوض في توافه الأمور.



ح - إنصاف الناس بالحق والعدل ولو علي نفسه.



6 - والأحاديث التي تحض علي مكارم الأخلاق كثيرة منها قوله (عليه السّلام) عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): (ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق)(29).



إن التحلي بمكارم الأخلاق من أفضل ما يملكه الإنسان في حياته، فصاحب الخلق الحسن يمتلك محبة الآخرين وتعلو قيمته بين الناس أجمعين في هذه الدنيا. وكذلك في الآخرة فإنه يدخر خير زاد ليوم المعاد.



وقال (صلّي الله عليه وآله وسلّم) في أهمية الخلق الحسن: أقربكم مني يوم القيامة أحسنكم أخلاقاً الذين يألفون ويؤلفون.



وقال الشاعر:



أحســن إلي الناس تستعبد قلوبهم فطالمــــا اســتعبد الإنسان إحسان



7 - ومن الأحاديث التي تشد المؤمنين إلي بعضهم البعض وتمتن الروابط الاجتماعية بينهم ما رواه (عليه السّلام) عن أبيه عن جده رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أنه قال: (إن أحب الأعمال إلي الله تعالي إدخال السرور علي المؤمن)(30).



حرص الإسلام كل الحرص علي وحدة المسلمين وتماسكهم ليكونوا وحدة متضامنة علي الخير والشر، من أجل ذلك جعل من أهم برامجه حثه المؤمنين علي إدخال السرور بعضهم علي بعض في أفراحهم وأتراحهم وكل ما يحف بهم من مشاكل في حياتهم. وهذا مما يوجب شيوع الألفة والمحبة والمودة بينهم، ومما يوحد صفوفهم ويمتن العلاقات الاجتماعية بين أفراد مجتمعهم. وللرسول الأعظم أحاديث عدة في هذا المجال منها: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد فإذا تداعي عضو منه تداعت له سائر الأعضاء بالحمي والسهر).



وقال أحد الشعراء يوصي بنيه قبل موته:



كــــــونوا جميعاً يا بني إذ اعتري خطـــــب ولا تــــــفرقــــــوا آحـــاد



تأبــــي العصي إذا اجتمعن تكسراً وإذا افـــــــترقــــن تـكسرت أفرادا



فالمؤمن عليه أن يساعد أخاه المؤمن فيؤنسه ويساعده ويخفف عنه مصائبه ويشاركه في كل ما يحتاج إليه، لأن الرابط بينهم هو الإيمان، والأخوة في الإيمان تستدعي المساعدة والمشاركة وإدخال البهجة والسرور إلي قلوب جميع المؤمنين. فهنيئاً لكل من استطاع مساعدة الآخرين من إخوانه في الدين فيكسب محبة الدنيا وسعادة الآخرة.



8 - وقال عليه السلام في تمجيد العقل:



روي (عليه السّلام) بسنده عن آبائه أن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: (إن الله عز وجل خلق العقل من نور مخزون مكنون، في سابق علمه الذي لم يطلع عليه نبي مرسل، ولا ملك مقرب، فجعل العلم نفسه، والفهم روحه، والزهد رأسه، والحياء عينه، والحكمة لسانه، والرأفة همه، والرحمة قلبه، فلنتأمل هذا التسلسل المنطقي العظيم:



جعل العلم أول كل شيء لأنه هو أساس فهم كل الأمور (يخشي الله من عباده العلماء) (والعلماء ورثة الأنبياء) ثم ألحق العلم بالفهم، ما فائدة العلم إذا كان يخزن في الذاكرة بلا فهم ولا وعي ولا إدراك! أبداً، إن فهم العلوم يجعلنا نستفيد منها ونستعملها فيما يسعدنا ويسعد الآخرين. وكم من العلماء العقلاء أنقذوا البشرية وطوروا الحياة الإنسانية إلي الأفضل.



والزهد رأسه: وذلك حتي يبتعد الإنسان عن الطمع والجشع والأنانية.



والحياء عينه: يكمن الحياء في العين وهو صفة إنسانية تهب الإنسان قيمة وتقديراً.



والحكمة لسانه: اللسان هو ترجمان العقل يعبر عنه بكل حالاته فعليه أن ينطق بالحكمة التي هي ميزان العقل وبرهان العطاء.



والرأفة همه: القلب الرؤوف هو القلب الحنون الذي يشعر مع الآخرين ويعطف عليهم في المواقف الإنسانية الحقة.



والرحمة قلبه: والرحمة صفة إلهية كريمة وصف الرحمن نفسه بها: رحمة الله الكبري التي وسعت كل شيء فالمؤمنون رحماء فيما بينهم يتعاونون ويتآلفون، ويحب الواحد منهم للآخر كما يحب لنفسه.



ثم يتابع الحديث (عليه السّلام) فيقول:...ثم حشاه وقواه بعشرة أشياء:



باليقين، والإيمان، والصدق، والسكينة، والإخلاص، والرفق، والعطية، والقنوع، والتسليم، والشكر.



هذه الصفات العشر تقوي العقل وتزكيه وتكسبه قوة وتألقاً وعطاء خيراً يفيض بهجة وسعادة وهناء.



ثم قال له عز وجل: أدبر فأدبر، أقبل فأقبل، ثم قال له: تكلم، فقال: الحمد لله الذي ليس له سند ولا ند، ولا شبيه ولا كفو، ولا عديل، ولا مثيل، الذي كل شيء لعظمته خاضع ذليل، فقال الله تبارك وتعالي: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحسن منك، ولا أطوع لي منك، ولا أرفع منك، ولا أشرف منك، ولا أعز منك، بك أواخذ، وبك أعطي، وبك أوحد، وبك أعبد، وبك أدعي، بك أرتجي، وبك أبتغي، وبك أخاف، وبك أحذر، وبك الثواب وبك العقاب..)(31).



حفل هذا الحديث الشريف بتمجيد العقل، وتعظيمه وماله من أهمية في حياة الإنسان الشخصية والاجتماعية والدينية. ولذلك منحه الله أفضل الخصائص وأهمها. فهو أفضل الموجودات التي خلقها الله، وقد منحه الله للإنسان وميزه علي بقية المخلوقات والكائنات.



ولا يخفي أن وجود العقل، هذه الهبة الإلهية العظيمة، هو شرط من شروط التكليف في الإسلام، فالفاقد عقله هو كالحيوان الأبكم لا يصح أن يتوجه له التكليف. قال بعض الحكماء: (إذا أخذ ما وهب سقط ما وجب).



9 - وقال (عليه السّلام)، قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): (كفي بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يعمي عليه من نفسه، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه..)(32).



من الجهل الأكبر أن يتغاضي الإنسان عن عيوب نفسه ويفتش عن عيوب الآخرين فينتقد ويجرح دون أي وازع أو رقيب. وكان الأولي به أن يراقب نفسه ويصلح أخطاءه ولا يلتفت إلي عورات الآخرين. قال أمير المؤمنين (عليه السّلام):



لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكــــلك عـورات وللناس أعين



كما أن من عيوب المرء أن يؤذي جليسه بما لا يعنيه، فيتدخل في شؤونه ويحرجه في قضاياه الخاصة. فلو شاء صديقه لأفضي إليه بسره وعرض عليه ما يعاني، أما أن يكثر من أسئلته عليه فهذا ما يؤذي الجليس ويتحول من صديق حميم إلي عدو لئيم وهو في غني عن ذلك.



وقد أخذ هذا المعني شعراء كثيرون وبنوا عليه في قصائدهم منهم الشاعر الفرنسي (لافنتين) الذي سمي قصيدته بعنوان (الخرج) La besace، فيضع عينة علي صدره يضع فيها أخطاء الآخرين وعينة علي ظهره يضع فيها أخطاءه، فيتعامي عنها ولا يراها بينما يتأمل أخطاء غيره فينقدها وينشرها.



وكذلك الشاعر أحمد شوقي أخذ المعني نفسه ونسجه في شوقياته.



10 - وقال (عليه السّلام) عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): (في الجنة ثلاث درجات، وفي الآخرة ثلاث درجات: فأعلي درجات الجنة لمن أحبنا بقلبه، ونصرنا بلسانه ويده. والدرجة الثانية لمن أحبنا بقلبه، ونصرنا بلسانه. والدرجة الثالثة: لمن أحبنا بقلبه.



وفي أسفل الدرك من النار من أبغضنا بقلبه وأعان بلسانه، وفي الدرك الثالث من أبغضنا بقلبه..)(33).



إن محبة أهل البيت (عليهم السّلام) مدعاة إلي الفوز بأسمي الدرجات في الفردوس الأعلي، ومحبتهم تعني محبة الحق في سبيل الله، ومحبة الخير من أجل خير عباد الله، ومحبة الصلاح من أجل كسب رضا الله.



كما أن بغضهم من أساب الهلكة والتردي في أسفل درك النار. فبغضهم يعني بغض الحق والبعد عن خط رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وخط الدعوة الإسلامية التي أوكلوا بنشرها والوقوف في وجه كل من عرقل مسيرتها.



11 - وقال (عليه السّلام) قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): (ستة لعنهم الله وكل نبي مجاب. الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والتارك لسنتي، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والمتسلط بالجبروت ليذل من أعزه الله، ويعز من أذله الله، والمستأثر بفيء المسلمين، المستحل له...)(34).



هؤلاء الأصناف الذين لعنهم الله تعالي، ولعنهم كل نبي مجاب، هم المنحرفون عن الحق، والرافضون لكل ما سنه الله في شريعته العادلة. من هؤلاء كان حكام الأمويين الذين ناصبوا العداء لأهل البيت، للعترة الطاهرة، ونشروا الفساد في البلاد والجور والطغيان في بقاع الأرض. لكنهم لم يستطيعوا إطفاء الشعلة المنيرة وإزالة القوة المجاهدة التي تصدت لردع الظلم ورد كيد الظالمين. والشاهد الواضح علي ذلك هو سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السّلام) شهيد كربلاء الذي ضحي بنفسه ودمه الطاهر من أجل إحقاق الحق وتقومي الاعوجاج. وهو القائل: ما خرجت لا أشراً ولا بطراً وإنما خرجت من أجل الإصلاح في أمة جدي.



12 - وهذا حديث شريف من أغني الأحاديث النبوية التي ضمت كنوز العلم الخيرة والحكمة الهادية والعرفان الجميل.



قال الإمام زين العابدين (عليه السّلام) حدثني أبي أن جده رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: (أعبد الناس من أقام الفرائض، وأسخي الناس من أدي الزكاة، وأزهد الناس من اجتنب المحارم، وأتقي الناس من قال بالحق في ما له وما عليه، وأعدل الناس من رضي للناس بما يرضي لنفسه، وأكيس الناس من كان أشد ذكراً للموت، وأغبط الناس من كان تحت التراب قد أمن العقاب، ويرجو الثواب، وأعقل الناس من يتعظ بتغير الدنيا من حال إلي حال، وأعظم الناس في الدنيا خطراً من لم يجعل للدنيا خطراً، وأعلم الناس من جمع علم الناس إلي علمه، وأشجع الناس من غلب هواه، وأكثر الناس قيمة أكثرهم علماً، وأقل الناس لذة الحسود، وأقل الناس راحة البخيل، وأبخل الناس من بخل بما افترض الله عليه، وأولي الناس بالحق أعلمهم، وأقل الناس حرمة الفاسق، وأقل الناس وفاءً الملوك، وأقل الناس صديقاً الملوك، وأفقر الناس الطماع، وأغني الناس من لم يكن للحرص أسيراً، وأفضل الناس إيماناً أحسنهم خلقاً، وأكثر الناس عقلاً أتقاهم، وأعظم الناس حذراً من ترك ما لا يعنيه، وأورع الناس من ترك المراء، وإن كان محقاً، وأقل الناس مروءة من كان كاذباً، وأشقي الناس الملوك، وأمقت الناس المتكبر، وأشد الناس اجتهاداً من ترك الذنوب، وأحلم الناس من فرَّ من جهال الناس، وأسعد الناس من حالف كرام الناس وأعقل الناس أشدهم مداراة للناس، وأولي الناس بالتهمة من جالس أهل التهمة، وأعتي الناس من قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه، وأولي الناس بالعفو أقدرهم علي العقوبة، وأحق الناس بالذنب السفيه، المغتاب، وأذل الناس من أهان الناس، وأحزم الناس أكظمهم للغيظ، وأصلح الناس أصلحهم للناس، وخير الناس من انتفع به الناس)(35).



كما تري هذا الحديث الشريف يلقي أضواء علي طبائع الناس واتجاهاتهم وميولهم ومنازعهم، وقد وضع المناهج الحية للإصلاح الشامل للعديد من القضايا النفسية والتربوية والاجتماعية. فهو منجم ثمين من مناجم المعرفة.



- جامعة أهل البيت:



الجامعة هي مكان تجمع الطلاب لتناول العلم بشتي أصنافه وأنواعه. وجامعة أهل البيت كانت تجمع بين الحين والآخر المئات والآلاف من مختلف العلوم وشتي الأقطار لدراسة الفقه والحديث واللغة والتفسير والفلسفة. وقد أسسها الإمام محمد الباقر حتي نمت وتكاملت في عهد ولده جعفر الصادق حيث باتت تضم آلاف العلماء في مختلف المواضيع. فتدفق إليها الطلاب من الحجاز والكوفة والبصرة وواسط وتخرج منها كبار العلماء والمحدثين والرواة. وقد أحصيت مؤلفات المتخرجين من تلك الجامعة فبلغت ستة آلاف كتاب منها أربعمائة كانت تعرف بالأصول علي لسان محدثي الشيعة، ولعل أكثر محتويات الكتب الأربعة: الكافي ومن لا يحضره الفقيه والوافي والاستبصار مأخوذة منها(36).



وما نلفت إليه أن المهمة التي قام بها الإمامان الباقر والصادق في قيام جامعة أهل البيت هامة جداً وتعني كل فرد من أئمة الشيعة (عليهم السّلام) لكن الظروف التي تهيأت للإمامين المذكورين لم تتهيأ لغيرهما من الأئمة الآخرين (عليهم السّلام) ذلك أن الفترة الزمنية التي قضاها الإمام الباقر قد رافقتها بوادر نقمة عارمة من مختلف الأقطار علي سياسة الأمويين فالجميع أحسوا بسوء صنيعهم وأرادوا التخلص منهم وبصورة خاصة ظلمهم للعلويين الذي كان سلاحاً قوياً بيد خصومهم الطامعين بالحكم. وهذا ما دعاهم ليكونوا أكثر اعتدالاً مما كانوا عليه بالأمس ولما جاء عهد الإمام الصادق كانت الدولة الأموية تلفظ أنفاسها الأخيرة وتعاني أشد المرارة من الهزائم التي تلحق بها من خصومها العباسيين الذين قوضوا أركانها وتسلموا الحكم بمساعدة العلويين والفرس.



في ظل هذه الظروف الخاصة انطلق الإمامان الباقر والصادق (عليهم السّلام) لأداء رسالتهما. وقد تم لهما ذلك بين عهدين: عهد غمرته الكوارث ودوخته الهزائم، وعهد ظهرت فيه تباشير النصر وزهو السيطرة علي الحكم. فقامت الحكومة الجديدة علي أكتاف العلويين وبمساندة الفرس. هذه الظروف هيأت للإمامين فرصة ذهبية لم تتهيأ لغيرهما من أئمة أهل البيت.



لكن يا للأسف! لما استتب الأمر للعباسيين وتسلموا زمام الحكم تستروا بظل أهل البيت وشيعتهم ثم ظهروا علي حقيقتهم فغدروا بأنصارهم ومثلوا أبشع الأدوار وأقبح المؤامرات التي فعلها الأمويون حتي قال أحد الشعراء:



يـــــا ليت جور بني مروان دام لنا وليـــت عدل بني العباس في النار



إن المشاكل التي كانت تحيط بالأمويين والأخطار المحدقة بهم من كل جانب سمحت لجامعة أهل البيت أن تنمو وتتوسع حتي أصبحت تضم أكثر من أربعة ألاف طالب، لكن ذلك حدث بعد أن مضي علي المسلمين أكثر من قرن لا عهد لهم بفقه يختص بأهل البيت حتي أن الرواة كانوا لا يتجرأون أن يجهروا بحديث لهم سوي ما كان يروي عن طريق الكتابة في الغالب. ذلك أن الأمويين في عز سلطانهم كانوا ينكلون بهم وبكل من يتهم بالولاء لهم، جادين في القضاء علي كل آثارهم.



وما نلفت إليه أنه لو أتيح للأئمة بعد الإمام علي (عليه السّلام) أن ينصرفوا إلي



الناحية التي اتجه لها الإمامان الباقر والصادق لكان فقه أهل البيت هو الفقه السائد والمعمول به عند عامة المسلمين. ذلك أن فقه الإمام علي بن أبي طالب هو الينبوع الأصيل والغزير وقد كان صاحب الرأي الأول والأخير في الفقه والقضاء بلا منازع ولكن خصومه عملوا بكل ما عندهم من وسائل لطمس آثاره وآثار أبنائه من بعده وكل من ينسب إليهم رأياً أو يروي عنهم حديثاً.



لقد شاء الله لجامعة أهل البيت أن تعيش آمنة مطمئنة ولو لفترة يسيرة من الزمن، تلك الفترة التي لا تعد شيئاً ملحوظاً بالنسبة لما تركته من الآثار في شرق البلاد وغربها، فترة لا تتجاوز ثلث قرن من الزمن تقريباً.



كما شاء الله سبحانه وتعالي لمذهب أهل البيت وفقههم، فقه الإمام علي بن أبي طالب، الذي أخذه عن الرسول مباشرة بلا واسطة، أن ينسبا إلي حفيدة الإمام جعفر الصادق الذي اشترك مع أبيه في تأسيس تلك الجامعة المباركة ثم استقل بها بعد وفاته (عليهما السّلام). وهذا لا يعني أن له رأياً في أصول المذهب أو فقهه يختلف فيهما عن آبائه وأحفاده، بل إنهم جميعاً (صلوات الله عليهم) يعملون بتعاليم القرآن الكريم، وسيرة الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله وسلّم).



الولاء لأهل البيت:



أكد الإمام زين العابدين (عليه السّلام) ضرورة الولاء لأهل البيت والمودة لهم، واعتبر ذلك عنصراً مهماً من عناصر الإسلام.



قال (عليه السّلام) لأبي حمزة الثمالي: (أي البقاع أفضل)؟



فحار أبو حمزة في الجواب فقال: (الله ورسوله أعلم).



فأجابه (عليه السّلام): (إن أفضل البقاع ما بين الركن والمقام، ولو أن رجلاً عمَّر ما عمَّر نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، يصوم النهار ويقوم الليل في ذلك الموضع، ثم لقي الله بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئاً)(37).



وقد تواترت الأخبار عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وأوصيائه (عليهم السّلام) في أن ولاية الأئمة ضرورة إسلامية يسأل عنها المسلم في يوم حشره ونشره، ويحاسب عليها كما يحاسب علي سائر الواجبات الإسلامية، وقد ذهب بعض العلماء إلي أنها شرط في صحة العمل، لا في قبوله، كشرائط الصحة في الواجبات.



جاء في أحكام القرآن للجصاص:



قال سعيد بن جبير: سألت الإمام زين العابدين (عليه السّلام) عن القربي في الآية الكريمة: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربي)(38). هي قرابتنا أهل البيت(39). فالله سبحانه وتعالي قربهم منه لأنه يعلم أين يضع رسالته، وقد ذكر الإمام (عليه السلام) في حديث آخر ما يظفر به محبو أهل البيت من الأجر الجزيل في دار الآخرة ودار الدنيا، فقد وفد عليه جماعة من الشيعة عائدين إياه قالوا له: (كيف أصبحت يا بن رسول الله)؟



فأجابهم الإمام بلطف: (في عافية، والله المحمود علي ذلك. وكيف أصبحتم أنتم جميعاً فانبروا قائلين: (أصبحنا والله لك محبين..).



فبشرهم بما يظفرون به من الجزاء الأوفي عند الله قائلاً: (من أحبنا لله أدخله الله ظلاً ظليلاً، يوم لا ظل إلا ظله ومن أحبنا يريد مكافأتنا كافأه الله عنا الجنة، ومن أحبنا لغرض دنياه آتاه الله رزقه من حيث لا يحتسب..)(40).



قسم الإمام (عليه السّلام) المحبة إلي ثلاثة أقسام عند محبي أهل البيت:



أ - من أحب أهل البيت لله..



المحبة الحقيقة النبيلة تكون لله وليس لأمر آخر، وأهل البيت المجاهدون في سبيل الله، الذين ضحوا بكل ما عندهم من قوة من أجل رفع كلمة الله ومن أجل نشر رسالة الله من واجب المؤمنين أن يحبوهم محبة خالصة ومحبة نبيلة وأصيلة، وهذا واجب لا ريب فيه. هؤلاء يدخلهم الله تبارك وتعالي ظلاً ظليلاً يوم لا ظل إلا ظله.



ب - ومن أحبهم مكافأة لهم.



كيف نحب أهل البيت مكافأة لهم؟ لقد قدموا لنا وللناس جميعاً خدمات جلي في جميع مجالات الحياة فبنشرهم الرسالة الإسلامية وجهادهم من أجل إعلاء كلمة الله أخرجوا الناس من الظلمة إلي النور، من ظلامة الجاهلية وظلم الجاهلين إلي نور الهداية والحياة الإنسانية الحرة الكريمة. فعلي المؤمنين أن يقدموا لهم مكافأة عرفاناً بجميلهم وذلك بإحياء ذكرهم. جاء في الحديث الشريف: أحيوا ذكرنا رحم الله من أحيا ذكرنا. إن إحياء ذكرهم إحياء الحق وتذكير الناس بالجهاد في سبيل الله، وتلقينهم دروساً في التضحية والعطاء والعمل الصالح في حياتهم الدنيا والآخرة. هؤلاء يكافئهم الله بالجنة.



ج - ومن أحبهم لغرض دنياه..



حتي الذي يحبهم من أجل مصالحه الشخصية وتحقيق أغراض دنيوية يرزقه الله من حيث لا يحتسب.



نخلص من هذا أن محبة أهل البيت واجب شرعي لكل مؤمن ومؤمنة لأنهم نبراس هداية ونور الإسلام والسلام.



سيادة أهل البيت علي الناس:



سأل أحدهم الإمام زين العابدين (عليه السّلام)، فقال له: بماذا فضلتم علي الناس جميعاً وسدتموهم؟



فأجاب (عليه السّلام): إعلم أن الناس جميعاً لا يخلون من أحد ثلاثة:



أما رجل أسلم علي أيدينا فهو مولي لنا يرجع إلينا ولاؤه فنحن سادته.



وأما رجل قاتلناه، فقتلناه فمضي إلي النار وبقي ماله مغنماً لنا.



وأما رجل أخذنا منه جزيته وهو صاغر، ولا رابع فأي فضل لم نجزه وشرف لم نحصله)؟(41).



ما نلاحظه أن الإمام (عليه السّلام) إنما ساق حديثه هذا إلي شخص لا يعترف بفضل أهل البيت (عليهم السّلام)، ولا يقر بسيادتهم المطلقة علي هذه الأمة.



وحسبهم فخراً أن الله أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وفرض مودتهم علي جميع المؤمنين، وقربهم الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بمحكم التنزيل وجعلهم سفينة النجاة وأمن العباد.



روي (عليه السّلام) عن آبائه عن جده (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أن رسول الله قال لأصحابه: (إن الله قد فرض عليكم طاعتي، ونهاكم عن معصيتي، وفرض عليكم طاعة علي بعدي، ونهاكم عن معصيته وهو وصيي، ووارثي، وهو مني، وأنا مني، حبه إيمان، وبغضه كفر..)(42).



فالرسول (صلّي الله عليه وآله وسلّم) لم يفرض طاعة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) علي أصحابه، وإنما الله فرضها علي جميع المسلمين. ولا ريب أن السبب في ذلك عظيم اتصال أمير المؤمنين بالله تعالي ومواهبه المتعددة وعبقريته إذ ليس في المسلمين من يدانيه في مآثره وفضائله. قال الجاحظ:



(لا يعلم رجل في الأرض متي ذكر السبق في الإسلام والتقدم فيه، ومتي ذكرت النجدة والذب عن الإسلام، ومتي ذكر الفقه في الدين، ومتي ذكر الزهد في الدنيا ومتي ذكر الإعطاء في الماعون، كان مذكوراً في هذه الخصال كلها، إلا علي رضي الله عنه)(43).

پاورقي

1 - الإمام زين العابدين لباقر شريف القرشي، ص5.



2 - البحار، ج46، ص107.



3 - أصول الكافي، ج2، ص616.



4 - المصدر نفسه، ص602.



5 - لا يحيف: لا يميل.



6 - الجواسي: جمع جاسية وهي الغليظة والمراد غلاظ الألسنة.



7 - أصول الكافي، ج2 ص602.



8 - تفسير البرهان، ج1، ص129.



9 - تفسير البرهان، ج2، ص95.



10 - سورة التوحيد: الآية 9.



11 - سورة يوسف: الآية 20.



12 - مجمع البيان، ج5، ص221.



13 - تفسير البرهان، ج1، ص280.



14 - سورة الشوري: الآية42.



15 - أحكام القرآن للجصاص، ج3، ص475.



16 - سورة البقرة: الآية22.



17 - الحمأ: شدة حرارة الشمس.



18 - تعطبكم: أي تهلككم.



19 - عيون أخبار الرضا، ج1، ص137.



20 - سورة الحجر: الآية21.



21 - المعارج، الآية24.



22 - وسائل الشيعة، ج6، ص69.



23 - الخصال، ص53.



24 - المصدر نفسه، ص165. وتاريخ بغداد، ج1، ص255.



25 - القلب يعني العقل.



26 - الخصال، ص5.



27 - المصدر نفسه، ص231.



28 - أصول الكافي، ج2، ص156.



29 - المصدر نفسه، ج2، ص99.



30 - الإمام زين العابدين لباقر شريف قرشي، ص8.



31 - الخصال، ص396-397.



32 - أصول الكافي، ج2، ص46.



33 - زين العابدين للقرشي، ص12.



34 - الخصال، ص308.



35 - زين العابدين للقرشي، ص16.



36 - سيرة الأئمة الإثني عشر،ص202.



37 - الإمام زين العابدين، ص202.



38 - سورة الشوري: الآية42.



39 - أحكام القرآن، ج3، ص475.



40 - الفصول المهمة، ص192.



41 - غرر الآثار ودور الآثار للديلمي، ص80. راجع زين العابدين للقرشي، ص99.



42 - ينابيع المودة، الباب41.



43 - ثمار القلوب للثعالبي، ص67.