بازگشت

الحياة السياسية


ساد الحياة السياسية في عصر الإمام (عليه السلام) ألوان من القلق والاضطراب، فقد خيم الذعر والخوف علي الناس وفقدوا جميع أشكال



الأمن والاستقرار، مما سبب تفكك المجتمع وشيوع الأزمات السياسية الحادة، واندلاع الثورات المتلاحقة. والسبب الأول والأخير في كل هذه الأحداث المؤلمة يعود إلي طبيعة الحكم الأموي والفساد الذي استشري في البلاد من قبل الملوك والولاة. وقد صور هذا الحكم الفاسد أحد الشعراء فقال:



فــــــدع عنك ادِّكارك آل سعدي فنحن الأكثـــرون حصيَ ومالا



ونحــــن المالكون الناس قسراً نـــــسومـــــهم المذلة والنكالا



ونوردهـــم حياض الخسف ذلاً ومــــا نـــــألوهم إلا خـــبــــالا



لقد سبب الحكم الأموي الكثير من المصائب والخطوب للكثير من المسلمين وأحدث لهم الفتن والمصاعب التي ألقتهم في أدهي الشرور. من هذه المظاهر البارزة لهذا الحكم الظالم:



أ - الجور والاستبداد:



لقد استبد الأمويون في حكمهم الشعوب الإسلامية وجاروا كثيراً، فلم يكن هناك قانون تسير عليه الدولة، وإنما كان حكماً مزاجياً يخضع لمشيئة ملوكهم ورغباتهم، وأهواء وزرائهم وعواطف ولاتهم. وقد وصفه العلامة الشيخ عبد الله العلايلي فقال: (إن نظام الحكم في عهد ملوك الأمويين لم يكن إلا ما نسميه في لغة العصر بـ(نظام الأحكام العرفية)، هذا النظام الذي يهدر الدماء، ويرفع التعارف علي المنطق القانوني، ويهدد كل امرئ في وجوده، وفي هذا العصر إذا كان يتخذ في ظروف استثنائية، ولحالات خاصة يراد بها الإرهاب، وإقرار الأمن، فقد كان في العهد الأموي هذا النظام السائد، وفي الحق أنه لا يمكننا أن نسمي هذا سلطة قضائية البتة، بل ننكر بكل قوة أن يكون في العصر الأموي سلطة قضائية بالمعني الصحيح إلا في فترات لا تلبث حتي يكون التباين طاغياً، وأكبر الشواهد علي هذا أن الخليفة أو حكومته تأتي ما تهوي بدون أن تتخذ لمآتيها شكليات قانونية علي الأقل مما يشعر باحترام السلطة..)(1).



لقد أصبح الاستبداد السياسي الظاهرة البارزة في الحكم الأموي اتخذ فيه الملوك الأمويون منهجاً خاصاً، انهارت بسببه قواعد العدل السياسي ومبادئ الحرية الاجتماعية.



ب - الإرهاب والتجويع:



استخدم معاوية أبشع أنواع القتل والإرهاب فدس السم في العسل وغيره، كما سمّ الإمام الحسن (عليه السلام) وكان يقول: إن لله جنوداً من عسل.. ولا يتواني عن الفتك والقتل في أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم وأنصارهم.



كتب معاوية إلي عماله كتاباً واحداً إلي جميع البلدان:



(انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاؤه ورزقه) ثم أتبع ذلك بنسخة أخري قال فيها: (من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره.. وكان أشد الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة علي (عليه السلام) فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضم إليه البصرة، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي (عليه السلام) فقتلهم تحت كل حجر ومدر وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم علي جذوع النخل، وطردهم وشردهم عن العراق فلم يبق فيها معروف منهم)(2).



ج - القضاء علي الحريات العامة:



لقد قضي علي الحريات العامة في العهود الأموية ولم يعد لها أي



ظل علي واقع الحياة، وبصورة خاصة حرية الرأي والقول، فبات أي فرد من المواطنين لا يستطيع أن يدلي برأيه، وبما يفكر به وبالأخص في ما يتعلق بالولاء لأهل البيت (عليهم السّلام)، فكل من يتظاهر بحبهم والولاء لهم يتهم بالكفر والإلحاد والزندقة. وقد علقت في الساحات العامة في الكوفة مجموعة من جثث رجال الفكر والعلم في الإسلام قد صلبوا أياماً علي الأعمدة بسبب حبهم للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كميثم التمّار ورشيد الهجري...



د- إحياء النزعة القبلية:



اتبع معاوية سياسة (فرق تسد) بين القبائل العربية حفاظاً علي ملكه وهي السياسة الاستعمارية نفسها، والتي نفذها ولا يزال ينفذها الاستعمار الغربي في بلادنا، وهدف معاوية من هذه السياسة إلهاء القبائل عن حكمه بالمشاكل الداخلية والخلافات القبلية، فكان يثير النزاعات بين مضر وربيعة والأزد... وكان الأنصار يعارضون حكمه علي أساس ديني ويرفضون سياسة الظلم والإرهاب فكان من واجبهم وتكليفهم الشرعي معارضة الأمويين، فجاء معاوية بشاعر البلاط الأموي الأخطل، وهو نصراني، يرد عليهم فهجاهم بقصيدة منها:



ذهبـت قريش بالمكارم والعلي واللؤم تـــحت عــمائم الأنصار



ثم بدأ معاوية بإثارة الضغائن بين الأوس والخزرج القبيلتين العربيتين، المعروفتين بعدائهما القديم. (وهكذا بث معاوية روح البغضاء والنفرة بين القبائل العربية فشغلت هذه القبائل بأحقادها الصغيرة عن مقارعة خصمها الحقيقي –الحكم الأموي- وشغل زعماء هذه القبائل بالسعي عند الملوك الأمويين للوقيعة بأعدائهم القبليين، وفاز معاوية وخلفاؤه من بعده، بكونه حكماً بين أعداء هو الذي أشعل النيران العدائية بينهم من حيث لا يشعرون، ووحدهم في طاعته من حيث لا يدرون، وقد



دفعهم هذا الوضع إلي أن يقفوا دائماً مع الحاكمين ضد الثائرين ليحافظوا علي الامتيازات الممنوحة لهم، فكانوا يقفون في وجه كل محاولة تهدف إلي الثورة علي النظام القائم وينخذلون عنها بل ويتسابقون في استخدام أقصي ما يملكون من نفوذ ودهاء في هذا السبيل للتأكيد علي ولائهم التام للسلطة القائمة)(3).



وبديهي أن الإسلام حارب العنصرية بلا هوادة وجعلها نوعاً من أنواع الجاهلية فقد قال الله تعالي: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): (لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوي، كلكم لآدم وآدم من تراب).



فكان بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي من الصحابة المقربين جداً لرسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) لإخلاصهم في الدين وقربهم من الله تعالي.



لكننا نري أن معاوية أثار الجاهلية من جديد بعد أن خبت، وأحياها بعدما ماتت في نفوس المؤمنين. فعمل علي تعميقها وركز علي التفرقة بين العرب والعجم.



(استدعي معاوية بن أبي سفيان الأحنف بن قيس وسمرة بن جندب وقال لهما: إني رأيت هذه الحمراء قد كثرت وأراها قد قطعت علي السلف. وكأنهم أنظر إلي وثبة منهم علي العرب والسلطان فقد رأيت أن أقتل شطراً وأدع شطراً لإقامة السوق، وعمارة الطريق. وكان هذا الموقف العدائي من الموالي سبباً في امتهانهم وإرهاقهم بالضرائب وفرض الجزية والخراج عليهم وإسقاطهم من العطاء فكان الجنود الموالي يقاتلون من غير عطاء)(4).



هـ- إقصاء الإسلام:



أهمل الملوك الأمويون الشريعة الإسلامية وتنكروا للإسلام فأقصوا جميع نظمه ومبادئه عن المسلمين، ولم يعد لأحكام القرآن أي وجود في أجهزتهم وإداراتهم. يقول نيكلسون: (كان الأمويون طغاة، مستبدين، لانتهاكهم قوانين الإسلام وشرائعه، وامتهانهم لمثله العليا، ووطئها بأقدامهم..)(5).



لقد جاهر أكثر ملوكهم بالكفر والإلحاد ودفنوا المبادئ الإسلامية ونظمها، فشربوا الخمر وعاثوا في الأرض فساداً وانتقصوا النبي الأعظم (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وخصوصاً يزيد بن معاوية المعروف بفسقه وإلحاده وتنكره للمبادئ الإسلامية النبيلة وهو القائل:



لعبــــت هاشـــــم بــــالملك فلا خبــــــر جاء ولا وحي نزل(6)



و- القضاء علي الروح الثورية:



لم يكتف معاوية بأساليب التفرقة والقتل والترغيب والترهيب في القضاء علي مناوئيه، فلإحكام سيطرته علي الناس ولإضفاء الطابع الديني علي حكمه.. استغل الجانب الديني استغلالاً مشوهاً ومنحرفاً عن هدفه الأصيل ومن هذه الأساليب اختلاق الأحاديث والأساطير والبدع الغريبة عن روح الإسلام.



(ذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي: إن معاوية وضع قوماً من الصحابة، وقوماً من التابعين علي رواية أخبار كاذبة وقبيحة في علي بن أبي طالب (عليه السلام)، تقضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم علي ذلك جعلاً يرغب في مثله فاختلقوا ما أرضاه ومنهم أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير.



روي أبو هريرة، شيخ المضيرة، عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): إن الله ائتمن علي وحيه ثلاثاً: أنا وجبرائيل ومعاوية، وإن النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ناول معاوية سهماً وقال له: خذ هذا حتي تلقاني في الجنة؛ وحديث آخر زاد في آخره: (أنا مدينة العلم وعلي بابها ومعاوية حلقتها).



ثم الأحاديث المختلفة التي تجوّر الظلم منها: (من رأي من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإن من فارق الجماعة شبراً فمات إلا ميتة جاهلية)(7).



ولا ريب أن أبا هريرة من عملاء معاوية المرتزقة فقد انتحل هذا الحديث وانتحل غيره. ومما أضفي عليه من النعوت المختلفة أنه كان كاتباً للوحي. والغريب أنه كيف يأتمن الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلّم) علي كتابة الوحي من رب العالمين مثل هذا الإنسان الجاهلي البعيد كل البعد عن الإسلام، والذي لم يلج في ضميره أي بصيص من نور الهداية والحق، وإنما بقي ملوثاً بأفكاره الجاهلية السوداء. وقد سخر المحدثين التجار والمرتزقة من وعاظ السلاطين ليختلقوا له الأحاديث المزورة والمختلقة ليوهم الناس بها. لكن من يقرأ سيرته بإمعان وتجرد يجده إرهابياً محترفاً لا علاقة له بالمثل الكريمة والصفات الخيرة، ولا قرابة بينه وبين الدين الإسلامي.



من تلك البدع التي اخترعها: مذهب الجبر.



شجع معاوية علي نشر هذا المذهب لأن ذلك يساعد علي تدعيم ملكه وإضفاء الشرعية عليه إذ أن فكرته تقول: إن كل ما يحدث لنا هو من الله، وإن الملوك والأمراء منصبون من قبل الله علينا - سواء رضينا أم أبينا- وإننا مجبورون في أفعالنا، فكان الرجل منهم يزني ويقول: أنا مجبور علي عملي.. ويسرق ويقول: أنا مجبور علي ذلك.. وهذا ما يعطي تبريراً مزيقاً لكل أحكام الظلم والجور والقتل التي كان يستخدمها الملوك الأمويون أمثال معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد...



ز- سياسة التجهيل:



إن جهل الناس للأمور يفقدهم المقاييس التي يقيسون بها الأشياء والأحداث، وهذا مما يفيد السلطة الغاشمة، إذ يتيح لها الفرصة بعدم مراقبة الناس لهم ومحاسبتهم علي أخطائهم. وهذه السياسة الغاشمة شجعت الأمويين علي نشر الجهل ولم يهتموا بنشر العلم بين أفراد الأمة، ولم يوضحوا أحكام الله كما هي علي حقيقتها بل حرفوها واختلقوا الأحاديث الموضوعية كما رأينا... فبرز الأدعياء الجاهلون والمرتزقة المحترفون، وتواري العلماء والمؤمنون عن الساحة وأصبح الوضع كما قال أبو العلاء المعري:



فــوا عجباً كم يدعي الفضل ناقص ووا أســفاً كم يظهر النقص فاضل



ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً تجاهلــــت حــــتي ظــن أني جاهل



فيــــا مــــوت زُرْ إن الحياة ذميمة ويــــا نــفس جدي إن دهرك هازل



هذه السياسة قد فعلت فعلها وأثرت تأثيراً كبيراً في الأمة... (لذلك نجد أن سوق الكذابين والوضاعين وحتي بعض من أسلم من أهل الكتاب أن سوقهم قد راج وصاروا هم أهل العلم والمعرفة والثقافة للأمة حينما انضووا تحت لواء الحكام، وأبعد أهل البيت عن الساحة وأجبروهم عن التخلي عنها. حتي لنجد الإمام السجاد يقول في الصحيفة السجادية في دعاء له خاص يوم الجمعة وعرفة:



(اللهم إن هذا المقام لخلفائك وأصفيائك، ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها حتي عاد صفوتك وخلفاؤك مقهورين مبتزين يرون حكمك مبدّلاً وكتابك منبوذاً وفرائضك محرّفة عن جهات أشراعك، وسنن نبيك متروكة)(8).



كل هذه السياسات الخبيثة والمدبرة فعلت فعلها في المجتمع الإسلامي وضللت قطاعات واسعة من الأمة. حتي التبست أمور كثيرة في أذهان الناس، واختلط الحق بالباطل وأثمرت سياسة معاوية حسب مخططها وآتت أكلها.



(فقد علّمت سياسة معاوية المالية وأسلوبه الوحشي، الناس علي الدجل والنفاق والسكوت عن الحق، والتظاهر بخلاف ما يعتقدون توصلاً إلي دنيا معاوية وتمسكاً بروحهم القبلية التي تفرض عليهم أن يتبعوا ساداتهم القبليين دون تروٍّ أو تفكير، وهذا الوضع الشاذ الذي فرض عليهم، أن يخفوا دوماً ما يعتقدونه حقاً واقعاً، وأن يتظاهروا بما تريده السلطة منهم، ولّد عندهم ازدواج الشخصية، هذا الازدواج الذي يرجع إليه سر المأساة الدامية الطويلة الأمد التي عاشها الثائرون علي حكام الجور من الأمويين والعباسيين ومن تلاهم من الظالمين، وهذا الازدواج في الشخصية صوّرة الفرزدق للإمام الحسين (عليه السلام) حين لقيه في بعض الطريق فسأله عن أهل الكوفة فقال له: (قلوبهم معك وسيوفهم عليك)(9).

پاورقي

1 - الإمام الحسين، ص339.



2 - ثورة الحسين للشيخ محمد مهدي شمس الدين/ عن شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ص70 وما بعدها.



3 - ثورة الحسين للشيخ محمد مهدي شمس الدين، ص100.



4 - المصدر نفسه، ص103.



5 - الإمام الحسين، ص64.



6 - من قصيدة لابن الزبعري.



7 - المصدر السابق، ص112.



8 - المصدر السابق، ص112.



9 - المصدر نفسه، ص124.