بازگشت

وصف الواقع المادي


لقد اقام الاسلام توازناً دقيقاً بين حاجة الانسان بما له من جانب مادي وبين حاجته في الاشواق، وخلجات القلب، وسمو النفس، وتطلعات الروح. وليس هذا بدعاً من الدين الاسلامي اِذ ان من الاساسيات فيه التي لا تقبل الريب اَنه دين الاخرة والاولي. قال تعالي: (وابتغِ فيما آتاك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا).



بيد اَنه لا ينبغي اَن يفهم من الاية المباركة ـ فيما نعتقد ـ ان النصيب من الدنيا كامن في المشتهيات الرخيصة، والنزعات الهابطة فانها ليست نصيب الانسان خليفة الله في الارض بل هي نصيب ابليس وذريته، وخلفائهم في البلاد.



ان في الانتهال من معين الحق الصافي ما يغني عن المستنقع الاسن.



من لا يروه كأس الخير... اظمأه بحر الشر.



ليس من الباطل ان يشبع الانسان حاجته الطبيعية من المادة بل الباطل اَن تطغي المادة علي الروح.



اِن الزهد والسمو الروحي لا يعنيان القضاء علي الماديات واِنما يعنيان تشذيبها وعدم الوقوع في اسرها.



لقد اذهل الامام زين العابدين ذلك الطغيان المادي الهائل، وانحسار المد الروحي في المجتمع.



1 ـ لقد شاهد الامام زين العابدين(عليه السلام) من يقدم علي قتل ريحانة الرسول الحسين بن علي(عليه السلام) في مغامرة للحصول علي الذهب والفضة. فهذا قاتله يقول لعبيد الله بن زياد(105):



املا ركابي فضة أو ذهبا اني قتلت السيد المحجبا



قتلت خير الناس امّا وابا وخيرهم إذ يذكرون النسبا



فغضب ابن زياد من قوله وقال: فاذا علمت انه كذلك فلم قتلته؟ والله لا نلت مني خيراً ولاُلحقنك به. فقدمه وضرب عنقه(106).



2 ـ ولقد شاهد الامام زين العابدين(عليه السلام) وفود الاحنف بن قيس، والحتات بن يزيد علي معاوية واعطاءه الاحنف خمسين الف درهم مع مخالفته له في الرأي والخط، في الوقت الذي اعطي فيه الحتات ثلاثين الف درهم مع انه يري رأي الاموية. فصار الحتات الي معاوية وقال: يا امير المؤمنين تعطي الاحنف ورأيه رأيه خمسين الف درهم وتعطيني ثلاثين الف درهم؟!



فقال: يا حتات اني اشتريت بها دينه.



فقال الحتات: يا امير المؤمنين تشتري مني ايضا ديني، فاتمها له والحقه بالاحنف. فلم يأت علي الحتات اسبوع حتي مات، وردَّ المال بعينه الي معاوية.



3 ـ لقد شاهد الامام زين العابدين(عليه السلام) هاتين اللمحتين الناشزتين من لمحات عبادة الماديات الي ما هنالك من لمحات بل صفحات طويلة من صفحات الطغيان المادي الرهيب. ولكن هذا لا يعني في حالة من الحالات عدم وجود العدد الجم ممن يحملون وسام الروح الصاعدة، والنفسية الكريمة الطهور.



بناءً علي ما تقدم من المشاهد الحزينة القاتمة، مشاهد الطغيان المادي علي حساب الروح.. ما كان من الامام زين العابدين(عليه السلام) إلا اَن يندد بهذا الانحطاط المزري، والانغماس الوضيع في الماديات. وله في ذلك شعر كثير ومن جملته هذه الامثلة:



أ ـ قال(عليه السلام) «بحر الوافر»(107):



اخي قد طال لبثك في الفسادِ وبئس الزاد زادك للمعادِ



صبا منك الفؤاد فلم تزغه وحدت الي متابعة الفؤادِ



وقادتك المعاصي حيث شاءت وألفتْكَ امرءاً سلس القيادِ



لقد نوديت للترحال فاسمع ولا تتصاممن عن المنادي



كفاك مشيب رأسك من نذير وغالب لونه لون السوادِ



ب ـ وقال(عليه السلام) ايضاً «بحر الوافر»(108):



ايعتز الفتي بالمال زهواً وما فيما يموت من اعتزازِ



ويطلب دولة الدنيا جنوناً ودولتها مخالفة المجازي



ونحن وكل من فيها كسفر دنا منا الرحيل علي وفازِ



جهلناها كأن لم نختبرها علي طول التهاني والتعازي



ولم نعلم بأن لا لبث فيها ولا تعريج غير الاجتيازِ



جـ ـ ولزين العابدين(عليه السلام) ايضاً من قصيدة طويلة.. «بحر الطويل»(109):



تُخِّربُ ما يبقي وتعمر فانياً ولا ذاك موفور ولا ذاك عامرُ



وهل لك ان وافاك حتفك بغتة ولم تكتسب خيراً لدي الله عاذر



اترضي بأن تفني الحياة وتنقضي ودينك منقوص ومالك وافرُ



د ـ وله ايضاً «بحر الوافر»(110):



فعقبي كل شيء نحن فيه من الجمع الكثيف الي الشتات



وما حزناه من حلّ وحرم يوزع في البنين وفي البنات



وتنسانا الاحبة بعد عشر وقد صرنا عظاماً باليات



كأنا لم نعاشرهم بودّ ولم يك فيهمُ خل مواتِ



هـ ـ وله كذلك هذه الابيات «بحر الوافر»(111):



لمن يا أيّها المغرور تحوي من المال الموفَّرِ والاثاثِ



ستمضي غير محمود فريداً ويخلو بعدُ عرسك بالتراث



ويخذلك الوصي بلا وفاء ولا اصلاح امر ذي التباث

پاورقي





(105) الامام الموفق بن احمد المكي أخطب خوارزم (ت 568) مقتل الحسين 2 / 40، ط. الزهراء النجف 1367هـ 1948م وانساب الاشراف لاحمد البلاذري من ا علام القرن الثالث الهجري ج 3 / ص 205، ط. بيروت دار التعارف 1977م 1397هـ .



(106) يذكر بعض المؤرخين ومنهم الموفق بن أحمد المكي الخوارزمي في مقتل الحسين ج2 ص61 ان الذي امر بقتله انما هو يزيد بن معاوية. وذكر بعضهم ومنهم ابن شهرآشوب في كتابه المناقب ج4 ص113 ان الذي أمر بقتله، انما هو عبيد الله بن زياد.



ومما يرجح تولي يزيد لقتله ما ذكره المؤرخ الاكبر علي بن الحسين المسعودي في مروج الذهب ج3 ص61 طبعة دار الاندلس ـ بيروت، بعد ان ذكر الرجز المشار إليه في المتن قال: فبعث به ابن زياد إلي يزيد بن معاوية ومعه الرأس. وهذا يدل بالضرورة علي ان ابن زياد لم يقتله.



والذي نعتقده ان علة قتل يزيد اياه «أو ابن زياد» انه اراد ـ عن خبث ومكر ـ ان يوجه الوسائل الاعلامية، الي شرعية قتل الامام الحسين(عليه السلام)، واستحقاقه للقتل، وان ينتقص من قدر الحسين ومكانته العظمي في الامة الاسلامية، لا ان يمدح وابواه معا سلام الله عليهما، وان كان الراجز لم يتعمد المدح، ولم يقصد إليه، وانما حملته علي ذلك حماقته وسوء طالعه.



حقاً، ان اكثر الناس عذاباً من اقيم بين المطامع، وبين سوء الطالع.



وإذا كان الذي يتولي قتل الامام الحسين هو الذي يمدح الامام الحسين فان كثيراً من الاهداف السياسية سوف تذهب هباءً منثورا.



(107) بهاء الدين العاملي، الكشكول 3 / 12.



(108) المصدر السابق.



(109) ابو الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي، البداية والنهاية 5 / 113 وتاريخ دمشق ـ مصورة.



(110) بهاء الدين العاملي، الكشكول 3 / 11.



(111) المصدر السابق.