بازگشت

مراتب التعامل


اَدني مراتب التعامل الاجتماعي مرتبة العُرف، وقد وصفتها باَدني المراتب لان العرف الاجتماعي لا يكتسب درجة عالية من الديمومة. فان الجيل اللاحق قد يرفضه من الاساس، ويقلبه رأساً علي عقب، وثانياً لان العرف الاجتماعي في كثير من الاحايين لا ينمو الا في ساحة بعض العقول البشرية والنفسيّات المختلفة ثم علي تعاقب الليالي والايام يتّخذ العرف صيغاً متَّبعة عند مجتمع ما.



ان العقول البشرية مع اكبارنا لها ـ من عدة جوانب ـ عرضة للخطأ، والاشتباه. اريد ان اقول: العقل مارد جبار يقفز فوق كثبان من الرمال. وفي هذه القفزات كثيراً ما تغوص قدماه بالرمال، اما النفسيات فانها كثيراً ما تداعبها الاهواء والامزجة الدنيئة والامراض المختلفة، الظواهر منها والكوامن.



ومع هذه المؤاخذات علي العرف فان منه ما يسمو بالمجتمع الي الغاية النبيلة والرتبة السامقة. وان من العرف ما يبني صرحه علي اساس فطري سليم، وغريزة انسانية فاضلة.



واسمي من مرتبة العرف مرتبة التشريع الاسلامي، والتقنين الربّاني.



ان النعتين السلبيين اللذين تطرّقا الي العرف بعيدان عن التشريع، إذ اِنه منحة الرب عزوجل، ولم يكن من صنيع العقل البشري، وما يؤاخذ علي النفس الانسانية لا يُذكر عند التعرض لتشريع الرّب تبارك وتعالي.



ان التعامل وفق التشريع الاسلامي يتكفل بسعادة المجتمع وخلاصه ضمن أطره، وليس في التعامل ضمن التشريع ما يزري بالانسانية ويحط من قدرها والعكس صحيح.



لقد تطرقنا لمرتبتين من التعامل ولابد من التطرّق للمرتبة الثالثة منه ألا وهي التعامل وفق الخلق الاسلامي.



قد يبدو هذا العنوان غريباً أول وهلة فان التشريع الاسلامي بما فيه من التعامل مستند علي الركائز الاخلاقية في مناحيه كافة، فكيف يدرج عنوان للتعامل الخلقي الاسلامي مستقلاً عن التعامل الثاني (التشريع) ورابياً عليه، ومتربعاً فوقه؟



الجواب:



لا اشكال بسمو التعامل الثاني وخلقيته، ولكن التعامل ضمن دائرته فحسب يجعل المتعاملين «مع تمسكهم بالتشريع» يتقاربون في المستوي العملي لانهم يتعاملون وفق ارضية واحدة لا يرتفع بعضها علي البعض الاخر الا قليلا، اما التعامل الخلقي فهو اولاً لا يعني غير الخلق الاسلامي وثانياً انه غير واجب علي معتنقي الايمان الالتزام به فرضاً حتمياً. وفي الارتقاء لمرتبة الخلق ثم التصاعد فوق مدارجه يتميز الصالحون والصديقون والصفوة من المتقين ما بين درجات عليا من الايمان حتي الحد الادني منه ما تصدق عليه العدالة.



ولمزيد من الايضاح نضرب لذلك مثالاً عن الامام زين العابدين(عليه السلام). كان يوماً خارجاً فلقيه رجل فسبّه فثارت اليه العبيد والموالي، فقال لهم علي زين العابدين(عليه السلام): مهلاً كفوا، ثم اقبل علي ذلك الرجل فقال له: ما ستر عنك من امرناأكثر. ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل، فألقي عليه زين العابدين خميصة كانت عليه وامر له بالف درهم، فكان ذلك الرجل بعد ذلك يقول: اشهد انك من اولاد الرسل.



اذا أراد الامام زين العابدين(عليه السلام) ان يأخذ حقه من هذا الرجل العادي عليه فان هذا مما لا شبهة فيه تشريعاً لان الاسلام لم يحرم علي الفرد المسلم اخذ حقه ممن ظلمه، بيد ان الامام زين العابدين(عليه السلام) اتبع الخطوات التالية:



اولاً: نهيه اتباعه عن ا لتعرض بسوء للمعتدي.



ثانياً: لطفه وتواضعه في مقابلة الرجل بقوله: ما سُتر عنك من امرنا اكثر.



ثالثاً: عرضه علي الرجل القيام باعانته علي حاجته.



رابعاً: الهديتين اللتين قدمهما له.



ان شيئاً من هذه الخطوات لا تجب في التشريع الاسلامي، فلو اراد الامام زين العابدين(عليه السلام) او أي انسان آخر ان يتركها لم يكن عليه بأس، ولم يقترف خطيئة، غير أن اتباعها او بعضها شيء محبب، مُرغّب فيه، دعا اليه الخلق الاسلامي ونهض به اعاظم الصالحين و سادة المتقين، يقول تبارك وتعالي: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)(79). ويقول تعالي كذلك: (ادفع بالتي هي احسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)(80).

پاورقي

(79) آل عمران / آية 124.



(80) فُصلت / آية 34.