بازگشت

التشيع و التصوف


هناك شبه اجماع من قبل باحثي التاريخ الاسلامي أن صعود ما سمي بالتصوف الاسلامي برز في ظروف انحسار المد الاسلامي الأصيل بعيد اغتيال الامام علي عليه السلام و صعود دولة الجور و الملك العضوض (الدولة الأموية).

التصوف أو الاستغراق في عبادة الله سبحانه الي درجة الابتعاد عن المساهمة في حركة المجتمع يرجح بعضهم أنها جاءت كرد فعل علي الظروف السياسية، و هو رأي يمتلك بعض المصداقية اذا قرأنا سيرة متصوفين و زهادا مثل سعيد بن جبير الأسدي الكوفي (95 - 45) الذي قتله الحجاج لانضمامه الي الانتفاضات المستمرة ضد الحكم الأموي. و الذي قال عنه أحمد بن حنبل: قتل الحجاج سعيدا و ما أحد علي وجه الأرض الا و هو مفتقر الي علمه.

أولئك الزهاد ساهموا في حركة المجتمع رغم زهدهم. لهذا يمكن للباحث أن يتخذ من حياة الامام علي نفسه مثالا للزهد أو اذا شئنا التصوف، و هو الذي سار علي نهجه تيار الزهد و التصوف في الحياة الاسلامية و حتي اليوم (سنة كانوا أم شيعة) رغم أن الزهاد، حسب سيرتهم، لا يعترفون بالمذهبية أو لا يقرونها، كما أثر عن أبرزهم الشيخ محي الدين بن عربي. و بهذا امتزج الزهد في الحياة بالمساهمة في خضم مشكلاتها، و السعي لحل مشكلات المجتمع الاسلامي بايجابية - كما فعل أئمة أهل البيت جميعهم. و السجاد من أبرزهم.

و لكن نصوص الصحيفة السجادية في جوهرها نص أدبي رائع في ريادة تيار التصوف الاسلامي برمته، و سيرة الامام السجاد عليه السلام حتي رحيله كانت مثال الزاهد في الحياة ذلك الامام الكثير السجود حتي سمي بذي الثفنات علي ملامحه من كثرة السجود، رغم كل ما أثر عنه من نشاط حركي و اجتماعي لنأسيس المدرسة و فلسفتها.

و لأن أبرز ما سجل في تلك المرحلة عن سيرته يتميز بالزهد و الابتعاد عن الخوص في الحياة العامة للجماهير - و السياسة في صلبها - فيمكن القول بأن الامام أول من استخدم التقية في ظرف تاريخي كان يقتضي هذه الخطوة بامتياز.

الصحيفة السجادية اذا أحد أبرز النصوص العرفانية في التاريخ الاسلامي، و حياة السجاد عليه السلام كانت كذلك، لهذا فقد ساهم هذا النص عبر النظرية و التبيق (من خلال حياة الامام) في ترسيخ أسس مدرسة أهل بيت النبي عليهم السلام.

كيف يمكن للزهد و رمزه الدعاء أن يساهم في تأسيس المدرسة التي ساهمت في صياغة التاريخ الاسلامي، و تطورت لتساهم في صياغة الحضارة الاسلامية عبر قادتها (الأئمة) و أتباعهم في الفقه و علم الكلام و حتي العلوم التطبيقية كالكيمياء علي يد جابر بن حيان أحد تلاميذي الامام الصادق عليه السلام لتتطور الي كونها منهج حياة اسلامية لما يقارب ثلث العالم الاسلامي اليوم؟

يطلق علي الصحيفة صفة: زبور آل محمد باعتبار زبور داود أو مزامير داود التي عرفت بالعهد القديم المتداول علي أنها أدعية الي الله لتمجيده و وصفه، و قيل عنها أنها القرآن الصاعد علي أن الانسان يخاطب الله بالدعاء اليه و تمجيده مصعدا ما تلقاه من الله اليه ثانية باستخدام القرآن الكريم النازل من الله اليه. و لم يؤثر عن رسول الله (ص) الكثير من نصوص الدعاء الشامل لكل حاجات الانسان في عبادته و سلوكه، و لأن الصحيفة تميزت بالشمول و المناجاة و الاستغراق، فقد تلقفها المسلمون في صدر الاسلام و تداولوها في صلاتهم و عباداتهم الأخري، كمايبدو من خلال ما قدمته الوثائق عن مكانة بارزة احتلها الامام السجاد لدي الجميع، خاصة اذا أخذنا قصيدة الفرزدق الشهيرة بعين الاعتبار.

و لعبت الصحيفة السجادية دورها في ترسيخ حالة سياسية دينية، و في بزوغ مدرسة و بداية انهيار حكم، قامت اركانه علي القمع و العنف و المجازر، فكيف يمكن لنص عرفاني أن يمتلك كل تكل الأهمية لولا أنه أصبح متداولا كمنشور سياسي سلمي منسوب الي شخصية بارزة بالغة القداسة و الاحترام من قبل المسلمين المثقلة ضمائرهم بالمجزرة التي حلت بأهل بيت النبي عليهم السلام. فهي بكاء في لجوء الي الله عبر مناجاته في كل صلاة.

و كان الامام علي زين العابدين عليه السلام - و قد اكتسب لقبه من العبادة بل و الاستغراق فيها - يعلم ذلك جيدا في سعيه السلمي للنفاذ الي قلوب الشريحة الأكبر من المسلمين في منتصف القرن الأول الهجري، قرن استباحة موطن رسول الله (ص) بدءا من حروب عدة مرورا بمأساة كربلاء، و وصولا الي موقعة الحرة 63 ه التي استباح بها الجيش الأموي المدينة المنورة في أبشع مجزرة و اذلال يتعرض له الصحابة و التابعون أنصار الاسلام و مؤسسيه. ليكتشف الباحث في التاريخ الاسلامي أن القران الأول الهجري رغم كل الفتوحات الاسلامية العظيمة، ظل علي صعيد التطبيق المجتمعي من أسوأ قرون الاسلام.. حروبا أهلية، و اضطهادا دينيا ليس له مثيل.

هناك اتصال وثيق بين الصحيفة السجادية و الامام زين العابدين، يذكر معها أو تذكر معه، بل أن شهرتها معه فاقت تفاصيل سيرة حياته التي أجمع المؤرخون المسلمون علي أنها سيرة نبيلة تصل الي حد الكمال في جوانبها البالغة الغني و التقوي و فعل الخير. و الحقيقة أن أولئك المؤرخين أولوا الامام الكثير من الاهتمام، حتي أنه احتل الدرجة الثانية من الأهمية في كتبهم في التفاصيل، فهؤلاء منذ أقدمهم (الطبري و اليعقوبي) اتخذوا الامام مثالا للمسالمة و الدعوة الي وحدة المسلمين بتجنب مطالبته بالسلطة أو الدعوة لها، و هو ما اعتبروه أمرا يحمد عليه كثيرا رغم نكبته الفاجعة بأبيه و أسرته.

أما العرفانيون الكثر فقد أصبح الامام سيدهم المطلق في تلك المرحلة المضطربة، ذلك أن ما رووه من نصوص عرفانية منسوبة للامام علي عليه السلام كان هو مصدرها، فهو حامل تراث أهل البيت و الناطق باسمهم و أحد أكبر الرواة عن رسول الله (ص) - حتي و ان تجاهله مؤلفو الصحاح - فليس من حلقة وسيطة الا هو للرواية عن جده النبي محمد (ص) و قد أصبح من البديهي أنه الامام، في وجود أبناء للامام الحسن عليه السلام لم يؤثر عنهم المطالبة بزعامة الأسرة أو مرجعية المسلمين بوجوده. فقد صار بديهيا - تبعا لنصوص المؤرخين - أنه الأول.

و هكذا تصاعدت أهميته الصحيفة السجادية علي كل ما دونتها من آثار الامام (التي ضاعت) بحيث احتفظ بها المسلمون وتداولوها، و ليس أدل علي ذلك أن معظم الأحاديث التي جمعها الكليني في كتابه الكافي (الصحيح الأساس لمدرسة أهل البيت) منسوبة لابنه الباقر عليه السلام و حفيده الصادق عليه السلام، و ليس له منها الا أقل القليل، مما ميز الامام محمد ابنه باسم باقر العلم، و لم يعط هذا اللقب له رغم أنه المعلم لابنه. كل ذلك يثبت بالقطع أن الامام قرر النفاذ الي قلوب المسلمين و الحفاظ علي مرجعيته و نقلها الي أولاده عبرطريق وحيد هو اللجوء الي الله بالعرفان و العرفان وحده، مما أثبته طريقا مأمونا و أساسيا لتأسيس مدرسة و بناء المستقبل عبر استغلال حاجة الجماهير المسلمة المحبطة و امتلاك قلوبها يسير سبيل العبادة المنسوبة الي مرجع بالغ الاحترام و التقدير، فكانت الصحيفة السجادية.