بازگشت

الفصل الرابع


مدرسة الإمام زين العابدين (عليه السلام)







إنّ حالة الجمود الفكريّ والركود العلميّ التي أصابت الاُمّة الإسلامية بسبب سيطرة بني أميّة علي الحكم كانت تستدعي حركة فكرية اجتهادية تفتح الآفاق الذهنية للمسلمين كي يستطيعوا أن يحملوا مشعل الكتاب والسنّة بروح المجتهد البصير، وهذا ما قام به الإمام زين العابدين (عليه السلام) فانبري إلي تأسيس مدرسة علمية وإيجاد حركة فكرية بما بدأه من حلقات البحث والدرس في مسجد الرسول (صلي الله عليه وآله) وبما كان يثيره في خطبه في صلوات الجُمَع اُسبوعيّاً.



أخذ الإمام (عليه السلام) يحدّث بصنوف المعرفة الإسلامية من تفسير وحديث وفقه وعقائد وأخلاق، ويفيض عليهم من علوم آبائه الطاهرين ويمرّن النابهين منهم علي التفقّه والاستنباط.



وقد تخرّج من هذه الحلقة عدد مهمّ من فقهاء المسلمين، وكانت هذه الحلقة هي المنطلق لما نشأ بعد ذلك من مدارس فقهية وشخصيات علمية[1].



ونلمس من خلال ما ورد عن الإمام (عليه السلام) من أحاديث ترتبط بالعلم والعلماء أنّه قد خطّط لهذه الحركة العلمية تخطيطاً بارعاً ، فهو بالإضافة إلي تفرّغه للتعليم ـ بالرغم من جميع الهموم والآلام التي تركتها له واقعة الطفّ الأليمة وما تلاها من حوادث مؤلمة في العالم الإسلامي ـ نجده يشيد بفضل العلم ويحثّ المستعدّين للتعلّم حثّاً أكيداً قولاً وعملاً، وتكريماً من جهة، كما نجده يرسم للمتعلّمين آداب التعلّم، ويبيّن حقوق المعلّم والمتعلّم، ويرغّبهما في تحمّل هذا العبء ببيان ثواب التعلّم والتعليم، بحيث استطاع أن يجمع عدداً كبيراً من طلاّب المعرفة الذين عُرفوا بالقرّاء باعتبار أنّ قراءة القرآن وحفظه وتعليم تفسيره كانت هي المحور في التعلّم والتعليم حينذاك، ولم يكن للحديث أو السيرة أو الفقه تدوين وتأليف باعتبار الحظر الذي أوجدته السلطة بعد غياب الرسول (صلي الله عليه وآله) ، فلم يكن الخط العام في صالح هذه الحركة الفكرية .



ومع كلّ هذا نلاحظ احتفاء القرّاء والفقهاء والعلماء بالإمام بنحو لا نجد له نظيراً في غيره من العصور ، فإنّ القرّاء كانوا لا يفارقونه في حضر أو سفر حتي قال سعيد بن المسيّب : إنّ القرّاء كانوا لا يخرجون إلي مكّة حتّي يخرج عليّ بن الحسين، فخرج وخرجنا معه ألف راكب[2].



قال (عليه السلام) مشيداً بفضل العلم وثوابه وأهمّيته :



« لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج، إنّ الله تبارك وتعالي أوحي إلي دانيال : إنّ أمقت عبيدي إليّ الجاهل المستخفّ بحقّ أهل العلم، التارك للإقتداء بهم ، وإنّ أحبّ عبيدي إليّ التقيّ الطالب للثواب الجزيل اللازم للعلماء التابع للحلماء القابل عن الحكماء »[3].



« طالب العلم إذا خرج من منزله لم يضع رجلاً علي رطب ولا يابس من الأرض إلاّ سبّحت له الأرضون السبع »[4].



وكان (عليه السلام) يكرم طلاّب العلوم ويرفع منزلتهم ويرحّب بهم قائلاً : «مرحباً بوصيّة رسول الله (صلي الله عليه وآله)». وكان إذا نظر إلي الشباب وهم يطلبون العلم أدناهم إليه وقال : «مرحباً بكم أنتم ودايع العلم، ويوشك إذ أنتم صغار قوم أن تكونوا كبار آخرين »[5].



وقد لاحظنا ما جاء في رسالة الحقوق من الإشادة بفضل العالم وحقوقه علي المتعلّمين من التعظيم له والتوقير لمجلسه وحسن الإستماع إليه والإقبال عليه وعدم رفع الصوت عليه والدفاع عنه وستر عيوبه وإظهار مناقبه وعدم مجالسة أعدائه وعدم معاداة أوليائه.



كما نلاحظ تأكيده علي عدم كتمان العلم وعدم التجبّر بالنسبة للمتعلّمين وحسن الإتقان في فنّ التعليم وعدم ابتغاء الأجر المادّي علي التعاليم.



كلّ هذا يشير إلي تخطيط واضح في سلوك الإمام (عليه السلام) لايجاد حركة ثقافية واسعة وتأسيس تيّار ثقافي يتسنّي له أن يقف أمام التيّارات المنحرفة والتخطيط الاُموي الذي لم يرق له تفتّح الوعي الإسلامي عند أبناء المسلمين.



وقد خرّجت مدرسة الإمام زين العابدين (عليه السلام) كوكبةً من العلماء الفقهاء والمفسّرين الذين سطعت أسماؤهم في العالم الإسلامي، وإليهم يعود الفضل في دفع عجلة الإحياء العلميّ في ذلك العصر الرهيب وما تلاه من عصور. ونشير فيما يلي إلي الأسماء اللاّمعة في هذا الصدد:



1 ـ 3 ـ وفي مقدمتهم الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام) وأخواه: زيد والحسين ابنا عليّ بن الحسين بن عليّ (عليهم السلام).



4 ـ أبان بن تغلب بن رباح ، أبو سعيد البكري الجريري: كوفيّ المولد والنشأة، وكان نابهاً ومقدّماً في كلّ فن، من قرآن وحديث وأدب ولغة ونحو، وتتلمذ عند الأئمّة الثلاثة: السجاد والباقر والصادق (عليهم السلام)، وكان يقول له الإمام الباقر (عليه السلام): « اجلس في مسجد المدينة وافتِ الناس فإنّي اُحبّ أن يُري في شيعتي مثلك » وألّف أبان في تفسير غريب القرآن وفي فضائل أهل البيت كما روي ما يناهز ثلاثين ألف حديث عن أئمّته (عليهم السلام)[6].



5 ـ إسماعيل بن عبد الخالق: وجه من وجوه أصحاب الأئمّة وفقيه من فقهائهم، وأدرك الإمام الصادق (عليه السلام) وروي عنه وعن الإمام الباقر والسجّاد أيضاً[7].



6 ـ ثابت بن أبي صفيّة : وهو أبو حمزة الثمالي، عالم جليل ورع تقيّ، تربّي بآداب أهل البيت وحمل علومهم ومعارفهم ، وأجمع المترجمون علي وثاقته وأنّه كسلمان الفارسي في زمانه، وكانت الشيعة ترجع إليه في الكوفة لإحاطته بفقه أهل البيت (عليهم السلام).



7 ـ رشيد الهجري : من أبطال الإسلام وأعلام الجهاد، وقد صلبه الاُمويّون من أجل عقيدته وولائه لأهل البيت (عليهم السلام).



8 ـ زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب ، كان يتولّي صدقات رسول الله(صلي الله عليه وآله)، وكان جليل القدر كريم الطبع زكيّ النفس كثير البرّ.



9 ـ سعيد بن جبير ، أبو محمد مولي بني والبة: كوفي تابعي نزل مكّة وهو من أعلام المجاهدين، وكان من أبرز علماء عصره في التفسير والفقه وأنواع العلوم، واستشهد بأمر الحجّاج في شعبان ( 95 هـ ).



10 ـ سعيد بن المسيّب المخزومي: من كبار التابعين، وقال فيه الإمام زين العابدين (عليه السلام): إنّه أعلم الناس بما تقدّمه من الآثار وأفصحهم في زمانه، وكان يبجّل الإمام كثيراً[8].



إنّ هؤلاء بعض تلامذته والرواة عنه، علي أنّ الإمام (عليه السلام) كان يربّي الموالي بشكل ليس له نظير، وكلّ من أعتقه الإمام يمكن أن يعدّ ممّن تربّي علي يد الإمام ، فلا ينحصر تراث الإمام فيما كتب وما روي عنه فقط ، بل يمكن أن يتّسع لكلّ عمل تربوي صدر عن الإمام وبقيت آثاره في المجتمع الإسلامي ولو كان متجسّداً في سلوك هؤلاء الموالي وأفكارهم واتجاهاتهم .

پاورقي





[1] راجع مقدمة السيد الشهيد محمد باقر الصدر للصحيفة السجّادية .



[2] من مقدمة السيد الشهيد محمد باقر الصدر للصحيفة السجّادية.



[3] اُصول الكافي : 1 / 35 .



[4] حياة الإمام زين العابدين : 23 .



[5] الدرّ النظيم : 173 .



[6] راجع ترجمته بالتفصيل في حياة الإمام زين العابدين : 522 ـ 527 .



[7] المصدر السابق : 529 .



[8] راجع تفصيل البحث عن رواة حديث الإمام وتلامذته ( حياة الإمام زين العابدين : 517 ـ 587 ).