بازگشت

الفصل الثالث


في رحاب الصحيفة السجّاديّة







لقد خطّط القرآن الكريم لثورة ثقافية عظيمة، وكانت آياته الاُولي تبشّر بحركة كبري في عالم العلم والمعرفة، حيث ابتدأ الوحي الربّاني بالأمر بالقراءة أمراً مؤكدّاً والإشارة بنعمة التعليم الإلهي والاهتمام بظاهرتي القلم والكتابة في التعليم وتدوين المعرفة ونقلها وتطويرها وتطوير الإنسان من خلال تكامل المعرفة وتطوّر العلوم.



والرسول الأمين وإن عرف عنه بأنّه لم يتعلّم القراءة والكتابة المتعارفة ولكنّه قد حثّ علي طلب العلم ونشره وتدوينه بإلهام إلهي، وبالرغم من أنّ الجهاز الحاكم الذي خلف الرسول (صلي الله عليه وآله) أصدر قراراً بمنع تدوين حديث الرسول (صلي الله عليه وآله) وبذلك وجّه ضَربةً كبيرةً للثقافة الإسلامية المتمثّلة في أحاديث الرسول الأعظم، لكنّها قد تدوركت بعد أن خلّفت مضاعفات كبيرةً لا زال العالم الإسلامي والإنساني يدفع ضريبتها حتي يومنا هذا بعد أن لمسوا تلك المضاعفات الكبري التي ترتّبت علي مثل هذا القرار.



وأمّا الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) حيث كانوا قد أدركوا في وقت مبكّر مضاعفات منع التدوين والنكسة التي سوف يصاب بها العالم الإسلامي بل الإنساني، فبادروا إلي التدوين وشجّعوا أصحابهم علي عملية التدوين بالرغم من أنّه كان ذلك يشكّل تحدّياً للسلطات آنذاك، لأنّ حفظ الشريعة والدفاع عنها يعدّ من أعظم الأهداف التي جُعل الأئمّة المعصومون حُرّاساً لها أمناء عليها.



فالأئمّة الأطهار(عليهم السلام) هم الروّاد الأوائل الذين خطّطوا لمسيرة الاُمّة الثقافية، وفجّروا لها ينابيع العلم والحكمة علي هدي الكتاب الحكيم وتعاليم الرسول العظيم، ولم يقتصر النشاط الثقافي للأئمّة(عليهم السلام) علي جانب خاص، وإنّما تناول أنواع العلوم وشتي مجالات المعرفة .



فالإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) هو رائد هذه النهضة العلمية والفاتح لأبواب العلوم العقلية والنقلية والمؤسس لاُصولها وقواعدها، وقد اعترف بهذه الحقيقة جملة من العلماء الكبار وألّف السيّد حسن الصدر كتابه «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام» فأثبت فيه تأريخياً صحة هذه الدعوي .



وممّن اعترف بذلك الاُستاذ عباس محمود العقّاد في كتابه «عبقرية الإمام عليّ» قائلاً : إنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قد فتق أبواب اثنين وثلاثين علماً ، فوضع قواعدها واُسس اُصولها.



وقال العلاّمة ابن شهر آشوب في كتابه «معالم العلماء»: الصحيح أنّ أوّل من صنّف الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ثمّ سلمان ثمّ أبو ذر ثمّ الأصبغ بن نباتة ثمّ عبيد الله بن أبي رافع ، ثمّ صنّفت الصحيفة الكاملة .



فالصحيفة السجّادية من ذخائر التراث الإسلامي ومن مناجم كتب البلاغة والتربية والأخلاق والأدب في الإسلام، ومن هنا سمّيت بــ «إنجيل أهل البيت» و «زبور آل محمد»[1].

مميزات الصحيفة السجّاديّة :



1 ـ إنّها تمثّل التجرّد التام من عالم المادّة والانقطاع الكامل إلي الله تعالي والاعتصام به، والذي هو أثمن ما في الحياة.



2 ـ إنّها تكشف عن كمال معرفة الإمام(عليه السلام) بالله تعالي وعميق إيمانه به .



3 ـ امتازت الصحيفة السجادية علي سائر أدعية المعصومين(عليهم السلام) بتكرار الصلاة علي محمّد وآل محمد لأنّه من الأرجح أن هذه الأدعية اُنشئت في أعقاب واقعة كربلاء التي كان منشؤها يزيد الذي كان هو وأبوه وجدّه ومن ورائهم بنو اُمية يسعون في إطفاء النور المحمّدي(صلي الله عليه وآله).



والأرجح ان الإمام كان يريد من خلال هذه الأدعية تكريس مبادئ الإسلام وترسيخها في النفوس في مواجهة المساعي الاُموية الهدّامة.



4 ـ فتحت الصحيفة للإنسان المسلم أبواب الأمل والرجاء برحمة الله الواسعة.



5 ـ كما فتحت للمناظرات البديعة مع الله تعالي باباً مهمّاً يتضمّن أنواع الحجج البالغة لاستجلاب عفو الله وغفرانه، مثل قوله(عليه السلام): « إلهي إن كنتَ لا تغفر إلاّ لأوليائك وأهل طاعتك فإلي من يفزع المذنبون ؟ ! وإن كنتَ لا تُكرِم إلاّ أهل الوفاء لك فبمن يستغيث المُسيئون ؟ !».



وهكذا قوله: « إلهي إنّي امرؤ حقير وخطري يسير وليس عذابي ممّا يزيد في ملكك مثقال ذرّة ... ».



6 ـ تضمّنت الصحيفة برامج أخلاقية روحية وسلوكية مهمّة لتربية الإنسان، ورسمت له اُصول الفضائل النفسية والكمالات المعنويّة.



7 ـ احتوت علي حقائق علمية لم تكن معروفةً في عصره . وقد أشرنا إلي بعض منها[2].



8 ـ كما تصدّت الصحيفة لمواجهة الفساد الفردي والإجتماعي والسياسي في عصر أشاعت فيه السياسة الاُموية الفساد الأخلاقي والخلاعة والمجون بين المسلمين، فكانت الصحيفة خير وسيلة للإصلاح في أحلك الظروف التي اتّبع فيها الاُمويون سياسة القمع والإرهاب.



9 ـ والصحيفة بعد هذا هي منجم من مناجم البلاغة والفصاحة وينبوع ثرّ للأدب الإسلامي الهادف، فهي لا تفترق عن «نهج البلاغة» في هذا المضمار.



10 ـ وقد ضمّن الإمام زين العابدين(عليه السلام) أدعيته ـ التي تمثّلت في الصحيفة الكاملة وسائر الأدعية التي وصلت عنه وجُمعت مؤخّراً في ما سمّي بــ « الصحيفة الجامعة » ـ منهاجاً كاملاً للحياة الإنسانية الفريدة ، ولم يترك الإمام جانباً ممّا تحتاجه الاُمّة الإسلامية إلاّ وتعرّض له وعالجه باُسلوبه الفذّ وبلاغته البديعة.

الدور التأريخي للصحيفة السجّاديّة :



قلنا: إنّ المسلمين في عصر الإمام زين العابدين(عليه السلام) واجهوا «خطرين كبيرين خارج النطاق السياسي والعسكري، وكان لا بدّ من البدء بعمل حاسم للوقوف في وجههما :



أحدهما : الخطر الذي نجم عن انفتاح المسلمين علي ثقافات متنوّعة وأعراف تشريعية وأوضاع اجتماعية مختلفة بحكم تفاعلهم مع الشعوب التي دخلت في دين الله أفواجاً، وكان لا بدّ من عمل علي الصعيد العلمي يؤكّد في المسلمين أصالتهم الفكرية وشخصيتهم التشريعية المتميزة المستمدة من الكتاب والسنّة، وكان لا بدّ من حركة فكرية اجتهادية تفتح آفاقهم الذهنية ضمن ذلك الإطار لكي يستطيعوا أن يحملوا مشعل الكتاب والسنّة بروح المجتهد البصير والممارس الذكيّ الذي يستطيع أن يستنبط منها ما يفيده في كلّ ما يستجدّ له من حالات.



كان لا بد إذن من تأصيل للشخصية الإسلامية ومن زرع بذور الاجتهاد، وهذا ما قام به الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام) فقد بدأ حلقة من البحث والدرس في مسجد الرسول (صلي الله عليه وآله) ...



وأمّا الخطر الآخر : فقد نجم عن موجة الرخاء التي سادت المجتمع الإسلامي في أعقاب ذلك الامتداد الهائل، لأنّ موجات الرخاء تعرّض أيّ مجتمع إلي خطر الانسياق مع ملذّات الدنيا والإسراف في زينة هذه الحياة المحدودة وانطفاء الشعور الملتهب بالقيم الخلقية والصلة الروحية بالله واليوم الآخر، وبما تضعه هذه الصلة أمام الإنسان من أهداف كبيرة، وهذا ما وقع فعلاً، وتكفي نظرة واحدة في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني ليتّضح الحال.



وقد أحسّ الإمام عليّ بن الحسين بهذا الخطر، وبدأ بعلاجه، واتّخذ من الدعاء أساساً لهذا العلاج، وكانت الصحيفة السجادية من نتائج ذلك، فقد استطاع هذا الإمام العظيم بما اُوتي من بلاغة فريدة وقدرة فائقة علي أساليب التعبير العربي وذهنية ربّانية تتفتّق عن أروع المعاني وأدقّها في تصوير صلة الإنسان بربّه ووجده بخالقه وتعلّقه بمبدئه ومعاده وتجسيد ما يعبّر عنه ذلك من قيم خلقية وحقوق وواجبات.



أقول : قد استطاع الإمام عليّ بن الحسين بما اُوتي من هذه المواهب أن ينشر من خلال الدعاء جوّاً روحياً في المجتمع الإسلامي يساهم في تثبيت الإنسان المسلم عندما تعصف به المغريات، وشدّه إلي ربّه حينما تجرّه الأرض إليها وتأكيد ما نشأ عليه من قيم روحية، لكي يظلّ أميناً عليها في عصر الغني والثروة كما كان أميناً عليها وهو يشدّ حجر المجاعة علي بطنه.



وهكذا نعرف أنّ الصحيفة السجّادية تعبّر عن عمل إجتماعي عظيم كانت ضرورة المرحلة تفرضه علي الإمام، إضافةً إلي كونها تراثاً ربّانياً فريداً يظلّ علي مرّ الدهور مصدر عطاء ومشعل هداية ومدرسة أخلاق وتهذيب وتظلّ الإنسانية بحاجة إلي هذا التراث المحمّدي العلوي، وتزداد حاجةً كلّما ازداد الشيطان إغراءً والدنيا فتنة »[3].

سند الصحيفة السجّادية :



ينتهي سند الصحيفة إلي الإمام أبي جعفر محمد الباقر (عليه السلام) وإلي أخيه الشهيد زيد بن عليّ بن الحسين (عليهما السلام)، وقد ذكرت سلسلة السند في مقدمة الصحيفة، وحظي هذا السند بالتواتر، وما زال العلماء يتلقّونها موصولة الإسناد بالإسناد.



قال السيّد محسن الأمين العاملي: « وبلاغة ألفاظها ـ أي الصحيفة ـ وفصاحتها التي لا تباري وعلوّ مضامينها وما فيها من أنواع التذلّل لله تعالي والثناء عليه والأساليب العجيبة في طلب عفوه وكرمه والتوسّل اليه أقوي شاهد علي صحّة نسبتها، وإنّ هذا الدرّ من ذلك البحر، وهذا الجوهر من ذلك المعدن، وهذا الثمر من ذلك الشجر، مضافاً إلي اشتهارها شهرةً لا تقبل الريب، وتعدّد أسانيدها المتّصلة إلي منشئها صلوات الله عليه وعلي آبائه وأبنائه الطاهرين، فقد رواها الثقات بأسانيدهم المتعدّدة المتّصلة إلي زين العابدين (عليه السلام) وقد كانت منها نسخة عند زيد الشهيد ثمّ انتقلت إلي أولاده، وإلي أولاد عبدالله بن الحسن المثنّي، كما هو مذكور في أوّلها، مضافاً إلي ما كان عند الباقر (عليه السلام) من نسختها، وقد اعتني بها عامّة الناس فضلاً عن العلماء اعتناءً بروايتها وضبط ألفاظها ونسخها، وواظبوا علي الدعاء بأدعيتها في الليل والنهار والعشي والإبكار »[4].

پاورقي





[1] حياة الإمام زين العابدين : 373 ـ 374 .



[2] راجع فصل: من علوم الإمام (عليه السلام)، حقائق علميّة في الأدعيّة السجّادية.



[3] نقلاً عن مقدمة السيد الشهيد محمد باقر الصدر علي الصحيفة السجّادية الكاملة .



[4] حياة الإمام زين العابدين : 375 ، وراجع شجرة طرق أسانيد الصحيفة السجادية المطبوعة في مؤسسة الإمام المهدي (عليه السلام) بإشراف السيد الأبطحي .