بازگشت

الفصل الثاني


ملامح عصر الإمام زين العابدين(عليه السلام)







تبيّن بوضوح من خلال البحوث السابقة أنّ الإمام زين العابدين(عليه السلام) قد عاش أقسي فترة من الفترات التي مرّت علي القادة من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، لأنّه عاصر قمّة الإنحراف الذي بدأ بعد وفاة الرسول الأعظم(صلي الله عليه وآله).



وذلك أنّ الانحراف في زمن الإمام زين العابدين(عليه السلام) قد أخذ شكلاً صريحاً، لا علي مستوي المضمون فقط بل علي مستوي الشعارات المطروحة أيضاً من قبل الحكّام في مجال العمل والتنفيذ، وانكشف واقع الحكّام لدي الجماهير المسلمة بعد مقتل الإمام الحسين(عليه السلام) ولم يبق ما يستر عورة حكمهم أمام الاُمّة التي خبرت واقعهم وحقيقتهم المزرية.



وقد عاصر الإمام(عليه السلام) كلّ المحن والبلايا التي وقعت أيّام جدّه أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) إذ ولد قبل استشهاد الإمام عليّ(عليه السلام) وتفتحت عيناه وجَدّه(عليه السلام) في محنته في خط الجهاد مع الناكثين والقاسطين والمارقين، ومن ثمّ عاش مع عمّه الإمام الحسن(عليه السلام) في محنته مع معاوية وعُمّالهِ وعملائه، ومع أبيه الحسين(عليه السلام) وهو في محنته الفاجعة إلي أن استقلّ بالمحنة وجهاً لوجه، وقد وصلت به المحنة ذروتها عندما رأي جيوش بني اُميّة تدخل مسجد رسول الله(صلي الله عليه وآله) في المدينة وتربط خيولها في المسجد، هذا المسجد الذي كان منطلقاً للرسالة وأفكارها إلي العالم أجمع، وقد أصاب هذا المسجد في عهد الإمام زين العابدين(عليه السلام) كثير من الذلّ والهوان علي يد الجيش الاُموي الذي أباح المدينة والمسجد معاً، وهتك حرمات النبيّ(صلي الله عليه وآله) فيهما جميعاً.



وكان القتل هو أبسط الوسائل التي استعملت في ذلك العصر مع المعارضين، إذ كان التمثيل الانتقامي والصلب علي الأشجار وتقطيع الأيدي والأرجل وألوان العقاب البدني لغة الحديث اليومي.



وانغمس الاُمويون في الترف، وقد ذكر المؤرّخون نوادر كثيرة من ترفهم وتلاعبهم باقتصاد الاُمّة وثرواتها[1]، حتي بالغوا في هباتهم للشعراء وأجزلوا العطاء للمغنّين[2]، وسادت حياة اللهو والعبث والمجون في كثير من أنحاء العالم الإسلامي وخصوصاً في مكّة والمدينة، وعمدت السلطات الاُموية إلي إشاعة ذلك فيهما لإسقاط هيبتهما من نفوس المسلمين.



لقد شاع الغناء في مدينة الرسول(صلي الله عليه وآله) بشكل يندي له جبين الإنسان المؤمن بالله وبرسوله، حتي صارت مركزاً له.



قال أبو الفرج: إنّ الغناء في المدينة لا يُنكره عالمهم، ولا يدفعه عابدهم[3].



وقال أبو يوسف لبعض أهالي المدينة: ما أعجب أمركم يا أهل المدينة في هذه الأغاني! ما منكم شريف ولا دنيء يتحاشي عنها[4] !!.



وكان العقيق إذا سال وأخذ المغنّون يلقون أغانيهم لم تبق في المدينة مخبّأة ولا شابة ولا شابّ ولا كهل إلاّ خرج ببصره ليسمع الغناء[5].



نعم غدت المدينة في ذلك العصر مركزاً من مراكز الغناء في الحاضرة الإسلامية وأصبحت معهداً متميزاً لتعليم الجواري الغناء[6]. بينما كانت الشريعة الإسلامية قد حاربت اللهو والمجنون ودعت الإنسان المسلم الي حياة الجدّ والاجتهاد والكدح من أجل إعمار حياته الدنيا وحياته الاُخري بالصالحات واستباق الخيرات وتسلّق قمم الكمال والحرص علي أثمن لحظات عمره في هذه الحياة وصيانتها من الضياع والخسران.



أمّا الحياة العلمية في عصر الإمام زين العابدين(عليه السلام) فقد كانت مشلولةً بما حوته هذه الكلمة من معني، إذ كان الخط السياسي الذي سارت عليه الدولة الاُموية منذ تأسيسها يرتكز علي مجافاة العلم، وإقصاء الوعي والثقافة من حياة المسلمين، وجرّهم الي منحدر سحيق من الجهل لأنّ بلورة الوعي العام وإشاعة العلم بين المسلمين كان يهدّد مصالحهم ودوام ملكهم القائم علي استغلال الجهل والغفلة التي روّج لها من تقمّص الخلافة بعد رسول الله(صلي الله عليه وآله).



أمّا الطابع الخاصّ للحياة الأدبية فتعرفه ممّا جري علي لسان شعراء ذلك العصر، فهو لم يمثّل أيّ مشكلة اجتماعية من مشاكل ذلك العصر علي كثرتها، كما أنّه لم يمثّل أيّ جدٍّ في الحياة العقلية والأدبية، وإنّما كان شعراً قَبَليّاً يحكي فيه كلّ شاعر ما امتازت به قبيلته من كرم الضيافة ووفرة المال والعدد، كما غدا الأدب سوقاً للهجاء المرّ والتنابز بالألقاب[7].

پاورقي





[1] حياة الإمام زين العابدين دراسة وتحليل: 665.



[2] الأغاني : 1 / 55، 4 / 400، 5 / 111.



[3] الأغاني : 8 / 224.



[4] العقد الفريد : 3 / 233.



[5] العقد الفريد : 3 / 245 .



[6] راجع : الأغاني : 2 / 226، 3 / 307، 4 / 222، 6 / 21، 7 / 316، و 332 ، 8 / 227، 10 / 57. والشعر والغناء في المدينة ومكة: 250.



[7] حياة الإمام زين العابدين، دراسة وتحليل : 672 ـ 673.