بازگشت

الباب الرابع


الفصل الأوّل

نظرة عامة في مسيرة أهل البيت(عليهم السلام) الرسالية







للوصول إلي التصور الصحيح عن المسيرة الرساليّة لأهل البيت(عليهم السلام) الرسالية لابدّ أن نجيب علي الأسئلة التالية:



1 ـ ما هي الرسالة الإسلامية؟



2 ـ وما هي الأخطار التي كانت تواجهها؟



3 ـ وما هي التحصينات التي كان ينبغي اتّخاذها ضد تلك الأخطار.



وقبل الإجابة نقول: هناك نظرتان أساسيتان للكون ولموقف الإنسان منه.



النظرة الاولي : أن الكون مملكة لمليك قدير يراقب من وراء الستار مراقبة غير منظورة. والإنسان في الكون هو الأمين والخليفة لا الأصيل والمتحكم لأن هذه مملكة غيره بكل ما فيها من وجود بما فيها نفس الإنسان. والإنسان إنّما يقوم بأعباء الخلافة والأمانة. وهذه الخلافة والأمانة تستبطن ضرورة استيحاء الأمر والنهي والتدبير والتقدير والتقديم من قبل ذلك المليك القدير. والأمين لابد له أن يطبّق علي الأمانة التي استؤمن عليها قرارات المالك. فلابد للإنسان إذن أن يكون رهن أوامر ذلك المليك القدير.



والجزء الآخر لهذه النظرية الأساسية: أن المسؤولية تستبطن الحساب والثواب والعقاب. وهما يستبطنان وجود عالم آخر وراء هذا العالم لتحقيق نتائج هذه المراقبة المستورة. وحينئذ لا يكون الإنسان قيد هذا الشوط القصير في الدنيا، بل يكون رهن خط طويل، وعلي مستوي أهداف كبيرة لا يستطيع هو أن يستنزفها إذ تكون أوسع من عمر الإنسان في هذه الدنيا.



وإذا أصبحت البشرية علي مستوي الأهداف الكبيرة ـ لأنها انطلقت في غاياتها وفي ثباتها إلي أكثر من حدود هذه الدنيا الفانية ـ حينئذ تستطيع أن تقوم بأعباء تلك الأهداف الكبيرة.



والحضارة الإسلامية عبارة عن هذه النظرة الأساسية بكلّ شُعبها وفروعها التي ترجع بالنهاية إلي تجسيد كامل للعلاقة مع الله سبحانه وتعالي في تفاعل الإنسان في كلّ مجالاته الحيوية والكونية.



والنظرة الثانية : هي أن يري الإنسان نفسه أصيلاً في هذا الكون، وأن هذا الكون غير خاضع لمليك ومراقبة من وراء الستار. وحينما تتركز في نظره هذه الأصالة وهذا الاستقلال بهذا الكون تنعدم المسؤولية، وإذا انعدمت المسؤولية بقي عليه هو أن يتحمل المسؤولية بنفسه.



فهو بدلاً من أن يشعر بأنه مسؤول ومراقب أمام جهة عُليا تضعه أمام أهداف كبري في سبيل الثواب الكبير والعقاب الكبير، هو يصنع لنفسه المسؤولية. وحينما يتحمّل هو وضع المسؤولية تكون هذه المسؤولية نتاج نفسه فينعكس فيما وضعه تمام ما في نفسه، أي تمام المحتوي الداخلي والروحي والحسي بكل ما فيه من نقص وانحراف.



وحينما يريد الإنسان أن يحدد لنفسه مسؤولياته فإنّما يحددّها علي ضوء أهدافه التي سوف يحددها علي ضوء ما يراه من الطريق الذي يريد سلوكه.



وحيث ان طريقه محدود في نطاق المادة فسوف تكون الأهداف علي مستوي الطريق المحدود... وحينئذ سوف يخسر القيم الأخلاقية ويتولد عن ذلك ـ طبعاً ـ ألوان من الصراع والنزاع بين البشرية.



وجاء الإسلام لِيربي الإنسان علي النظرية الاولي بحيث تصبح جزءً من وجوده وتجري مع دمه وعروقه وفكره وعواطفه وتنعكس علي كل مجالات تصرفه وسلوكه مع الله سبحانه وتعالي ومع نفسه ومع الآخرين.



ولا بدّ للإسلام حينئذ أن يهيمن علي هذا الإنسان، وعلي كل طاقاته وعلاقاته ليستطيع أن يربيه وكلما كانت الهيمنة أوسع نطاقاً كانت التربية أكثر نجاحاً. فإنّ الأب قد لا ينجح في تربية ابنه لأن وجود ابنه ليس كله تحت هيمنته لأن هذا الابن هو ابنه وابن المجتمع أيضاً مادام يتفاعل معه ويتأثر به ويؤثر فيه ويتبادل معه العواطف والمشاعر والأفكار والانفعالات ، وقد يقيم معه علاقات في الحقول الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغير ذلك من مجالات حياته، فهو ليس ابنه وحده بل ابن المجتمع أيضاً.



ومن الطبيعي أن يعجز كثير من الآباء عن تربية أبنائهم في المجتمع الفاسد.



اذن فالتربية الكاملة لا تتحقق إلاّ إذا هيمن المربي علي الإنسان هيمنة كاملة، علي كل علاقاته الاجتماعية مع غيره بحيث يصبح تمام هذا الوجود تحت سيطرة هذا المربي، فيصير شخص واحد هو الأب وهو المجتمع. وحينئذ يصبح هذا مربّياً كاملاً.



وهذا ما صنعه رسول الله(صلي الله عليه وآله) حين هيمن علي العلاقات الاجتماعية لأنه تزعّم المجتمع بنفسه، فأنشأ مجتمعاً وقاده بنفسه ووقف يخطط لهذا المجتمع ويبني كل العلاقات داخل الاطار الاجتماعي: علاقة الإنسان مع نفسه وعلاقته مع ربّه وعلاقته مع عائلته وعلاقته مع بقية أبناء مجتمعه. ولهذا صارت كل هذه الأمور تحت هيمنته وبهذا استكمل الشرط الأساسي للتربية الناجحة[1].



وبالرغم من أن النبي(صلي الله عليه وآله) قد مارس عملية التغيير الشاملة للمجتمع وأعرافه وأنظمته ومفاهيمه، لكن الطريق لم يكن قصيراً أمام عملية التغيير الشاملة هذه، بل كان طريقاً ممتداً بامتداد الفواصل المعنوية الضخمة بين الجاهلية والإسلام، فكان علي النبي(صلي الله عليه وآله) أن يبدأ بإنسان الجاهلية فتنشئه إنشاءاً جديداً ويجعل منه الإنسان الإسلامي الذي يحمل النور الجديد ويجتثّ منه كلّ جذور الجاهلية ورواسبها.



وقد خطا الرسول الأعظم(صلي الله عليه وآله) بعملية التغيير هذه خطوات مدهشة في برهة قصيرة جدّاً[2] حتّي وأنتجت التربية النبوية انتاجاً عظيماً وحققت تحوّلاً فريداً.



ولكن الاُمّة الإسلامية ـ ككل ـ لم تكن قد عاشت في ظل عملية التغيير هذه إلاّ عقداً واحداً من الزمن علي أكثر تقدير، وهذا الزمن لا يكفي عادةً في منطق الرسالات العقائدية والدعوات التغييرية ليرتفع الجيل الذي عاش في كنف الرسالة عشر سنوات فقط إلي درجة من الوعي والموضوعية والتّحرر من رواسب الماضي والاستيعاب لمعطيات الرسالة الجديدة استيعاباً يؤهله للقيمومة علي الخط الرسالي وتحمّل مسؤوليات الدعوة الي الله تعالي علي بصيرة تامّة ومواصلة عملية التغيير الشاملة بدون قائد رساليّ.



بل ان منطق الرسالات العقائدية يفرض أن تمرّ الاُمّة بوصاية عقائدية فترة أطول من الزمن تهيؤها للارتفاع إلي مستوي تلك القيمومة[3].



وباعتبار أن الاسلام كان يريد تحقيق أهدافه كاملة كان ينبغي أن يستمر تطبيقه علي يد الرسول(صلي الله عليه وآله) نفسه فيمتدّ به العمر حتي يستكمل كلّ الشروط اللازمة للتربية الشاملة في فترة زمنية كافية أو يوكل أمر تطبيق الإسلام إلي من يخلفه من القادة الأكفاء الذين بلغوا درجة العصمة في مستواهم العقائدي والفكري والعملي ليصونوا أمر التربية من أي انحراف أو انهيار.



اذن منطق العمل التغييري علي مسار التاريخ كان يفرض علي النبي(صلي الله عليه وآله) أن يصون تجربته من أيّ ضعف أو اندحار، وذلك من خلال استمرار الوصاية علي التجربة الانقلابية الجديدة وهكذا كان فقد تمثّلت مهمّة صيانته للتجربة الفتيّة في أهل بيته المعصومين(عليهم السلام) الذين أعدّهم بنفسه إعداداً رسالياً وقيادياً خاصّاً ليكونوا قادرين علي مواصلة عملية التغيير الشاملة بالشكل المطلوب، والمنسجم مع أهداف الرسالة الكبري.

الأخطار التي كان يواجهها الإسلام :



لم يكن الإسلام نظرية بشرية لكي تتحدَّدْ فكرياً من خلال الممارسة والتطبيق وتتبلور مفاهيمه عبر التجربة المخلصة، وإنما هو رسالة الله التي حُدّدت فيها الأحكام والمفاهيم وزوّدت ربّانياً بكلّ التشريعات العامّة التي تتطلبها التجربة، فلا بدّ لزعامة هذه التجربة من استيعاب الرسالة بحدودها وتفاصيلها ووعي كامل لأحكامها ومفاهيمها، وإلاّ كانت مضطرة إلي استلهام مسبّقاتها الذهنية ومرتكزاتها القَبْلية وذلك يؤدّي إلي نكسة في مسيرة التجربة وبخاصة إذا لاحظنا أن الإسلام كان هو الرسالة الخاتمة من رسالات السماء التي يجب أن تمتد مع الزمن وتتعدي كل الحدود الوقتية والاقليمية والقومية، الأمر الذي لا يسمح بأن تمارس زعامته ـ التي تشكل الأساس لكلّ ذلك الإمتداد ـ تجارب الخطأ والصواب التي تتراكم فيها الأخطاء عبر فترة من الزمن حتي تشكل ثغرة تهدد التجربة بالسقوط والانهيار[4].



وقد برهنت الأحداث بعد وفاة الرسول(صلي الله عليه وآله) علي هذه الحقيقة وتجلّت بعد نصف قرن أو أقلّ من خلال ممارسة جيل المهاجرين الذين لم يُرَشَّحوا من قبل الرسول(صلي الله عليه وآله) لإمامة الدعوة ولم يكونوا مؤهلين للقيمومة عليها.



ولم يمض ربع قرن حتي بدأت الخلافة الراشدة تنهار تحت وقع الضربات الشديدة التي وجّهها أعداء الإسلام القدامي فاستطاعوا أن يتسلّلوا إلي مراكز النفوذ في التجربة بالتدريج ويشغلوا القيادة غير الواعية ثم صادروا بكل وقاحة وعنف تلك القيادة وأجبروا الاُمّة وجيلها الطليعي الرائد علي التنازل عن شخصيّته وقيادته وتحولت الزعامة إلي ملك موروث يستهتر بالكرامات ويقتل الأبرياء ويبعثر الأموال ويعطّل الحدود ويجمّد الأحكام ويتلاعب بمقدرات الناس وأصبح الفييء والسواد بستاناً لقريش، والخلافة كرة يتلاعب بها صبيان بني أمية[5].

پاورقي





[1] أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف: 117 ـ 122، طبعة دار التعارف.



[2] بحث حول الولاية: 15، طبعة دار التعارف.



[3] المصدر السابق : 59.



[4] بحث حول الولاية : 57 ـ 58 .



[5] المصدر السابق : 60 ـ 61.