بازگشت

عبادة الإمام علي زين العابدين (عليه السّلام)


قلنا إنه من أشهر ألقاب الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) السجاد وذي الثفنات. فالسجاد علي وزن فعّال تعني كثرة السجود لأنه كان يقضي معظم أوقاته في الصلاة التي قال عنها جده النبي المصطفي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) إنها قرة عينه.



وأما تسميته بذي الثفنات، كما جاء في الكافي للكليني، إن الإمام الباقر (عليه السّلام) قال: كان لأبي في موضع سجوده آثار ثابتة يقطعها في كل سنة من طول سجوده وكثرته. وفي رواية الصدوق أنه كان يقطعها ويجمها وأوصي أن تدفن معه في قبره.



جاء في مصادر عدة أنه (عليه السلام) كان إذا توضأ للصلاة يصفر لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فيقول: تدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟



وإذا قام إلي الصلاة أخذته الرعدة، ويقول: أريد أن أقوم بين يدي ربي وأناجيه فلهذا تأخذني الرعدة.



ومرة وقع حريق في البيت الذي هو فيه وكان ساجداً في صلاته فجعلوا يقولون: يا بن رسول الله النار، النار، فما رفع رأسه من سجوده حتي أطفئت، فقيل له: ما الذي ألهاك عنها؟ فقال: نار الآخرة.



أجمع الرواة عن كثرة عبادته وصلاته فجاء عن الكليني في الكافي قال: كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة حتي مات ولقب بزين العابدين لكثرة عبادته وحسنها(1).



وعن خشوعه وتقاه. قال أبو عبد الله (عليه السلام): (كان أبي يقول: كان علي بن الحسين صلوات الله عليهما إذا قام في الصلاة كأنه ساق شجرة لا يتحرك منه شيء إلا حركه الريح منه).



ومن نظر إليه وهو يصلي يخاله شبيهاً بأبيه الإمام الحسين (عليه السّلام) وبجديه علي بن أبي طالب والنبي محمد الرسول الأكرم (صلّي الله عليه وآله وسلّم). قال أبو حمزة الثمالي: (رأيت علي بن الحسين (عليهما السّلام) يصلي فسقط رداؤه عن أحد منكبه، قال: فلم يسوِّه حتي فرغ من صلاته قال: فسألته عن ذلك. فقال: ويحك أتدري بين يدي من كنت؟ إن العبد لا يقبل من صلاته إلا ما أقبل عليه منها بقلبه)(2).



وقال الإمام الباقر (عليه السّلام):



(كان علي بن الحسين يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة وكانت الريح تميله بمنزلة السنبلة، وكانت له خمسمائة نخلة وكان يصلي عند كل نخلة ركعتين، وكان إذا قام في صلاته غشي لونه لون آخر، وقيامه في صلاته قيام عبد ذليل بين يدي الملك الجليل، كانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله، وكان يصلي صلاة مودع يري أنه لا يصلي بعدها أبداً)(3).



وجاء في المصدر نفسه قال:



(كان الإمام السجاد خريطة فيها تربة الحسين إذا قام في الصلاة تغير لونه فإذا سجد لم يرفع رأسه حتي يرفض عرقاً)(4).



وقال الإمام الصادق (عليه السّلام):



(ولقد دخل أبو جعفر علي أبيه (عليه السّلام) فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد وقد اصفر لونه من السهر ورمضت عيناه من البكاء ودبرت جبهته من السجود وورمت قدماه من القيام في الصلاة. قال: فقال أبو جعفر: فلم أملك حين رأيته بتلك الحال من البكاء فبكيت رحمة له وإذا هو يفكر فالتفت إلي هنية من دخولي فقال: يا بني أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي (أمير المؤمنين) فأعطيته فقرأ فيها يسيراً ثم تركها من يده تضجراً وقال: من يقوي علي عبادة علي بن أبي طالب)(5).



قال الزهري: (كان علي بن الحسين (عليه السّلام) إذا قرأ (ملك يوم الدين) يكررها حتي يكاد يموت)(6).



وكان الإمام السجاد يسجد علي تربة الحسين (عليه السّلام) لأن السجود عليها يخرق الحجب السبع ويقبل الله صلاة من سجد عليها ما لم يقبله من غيرها(7).



ذلك أن الله تعالي فضل تربة سيد الشهداء علي سائر البقاع حتي بيته المعظم. جاء في الحديث: إن أرض الكعبة افتخرت بنسبتها إليه جل شأنه فأوحي إليها الجليل تعالي أني خلقت أرضاً لولاها ما خلقتك ولولا ما تضمنته ما خلقت البيت الذي افتخرت به)(8):



فاسجــــد عــلي تربته القدسية فإن فيها الفـــــضل والمــــزية



فنورها يخـــــرق سـبع الحجب يفــــوق نــــور نيرات الشهب



ما سجد الصادق مـــهما صلي إلا عليـــــها وكفانا فضلا(9)



ولما شاهدته عمته فاطمة بنت علي بن أبي طالب ما ناء به من الجهد في العبادة خافت عليه من أذية نفسه وهلاكها وهو بقية السلف وحمي الأمن ومعقد الآمال ومفزع المستجير فاتت جابر بن عبد الله الأنصاري، وهو خاصتهم وصاحب جدهم رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم). فلعله يستطيع أن يخفف العناء والجهد عن الإمام السجاد, فقالت له: يا صاحب رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) إن لنا عليكم حقوقاً ومن حقنا عليكم أن إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهاداً تذكرونه الله تعالي وتدعونه إلي البقيا علي نفسه. وهذا علي بن الحسين قد انخرم أنفه وثفنت جبهته وركبتاه وراحتاه إذ آبا منه لنفسه في العبادة.



فأتي جابر باب علي بن الحسين فرأي علي الباب أبا جعفر الباقر (عليه السّلام) فاستأذنه في الدخول علي أبيه. فدخل جابر علي الإمام السجاد (عليه السّلام) وهو في محرابه قد أنضته العبادة فنهض إليه الإمام وسأله عن حاله وأجلسه إلي جنبه. فقال له جابر: يا بن رسول الله أما علمت أن الله خلق الجنة لكم ولمن أحبكم، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم؟ فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك؟ فقال علي بن الحسين: يا صاحب رسول الله: أما علمت أن رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلم يدع الاجتهاد له وتعبد بأبي هو وأمي حتي انتفخ الساق وورم القدم. فقيل له أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.



فقال (صلّي الله عليه وآله وسلّم): أفلا أكون عبداً شكوراً. فلما نظر جابر إلي علي بن الحسين لا يقبل قول من يستميله عن الجهد في القصد، قال له يا بن رسول الله: البقيا علي نفسك فإنك لمن أسرة بهم يستدفع البلاء ويستكشف اللأواء وبهم تستمطر السماء.



فقال (عليه السّلام) يا جابر لا أزال علي منهاج أبوي متأسياً بهما صلوات الله عليهما حتي ألقاهما. فأقبل جابر علي من حضر وقال: والله ما رؤي في أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين إلا يوسف بن يعقوب. والله لذرية الحسين (عليه السّلام) أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب وإن منهم لمن يملأ عدلاً كما ملئت جوراً(10).



قد نري أن مثل هذه العبادة غريبة علي الناس العاديين لكنها ليست بغريبة أبداً علي مثل أهل البيت العابدين الزاهدين والطاهرين المنتجبين.



والإمام زين العابدين ليس بحاجة إلي الإطراء بكثرة صلاته في اليوم والليلة ألف ركعة(11)، ولا بمتابعة صيامه الذي قالت عنه مولاته: (ما فرشت له فراشاً بليل قط ولا أتيته بطعام في نهار قط)(12). وإنما ما يجب معرفته أنه (عليه السّلام) كان يقوم بهذه الأعمال العبادية بحق اليقين سواء من ناحية النية المقصورة علي تأهل المولي سبحانه للعبادة، لا من الخوف أو الرجاء كما سلف مثله عن جده أمير المؤمنين وسيد التقيين (عليه السّلام) الذي يقول: (إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك).



فالإمام السجاد يعبد الله تعالي كما يعبده أهل بيته كأنه يراه، ويخافه كأنه ينظر إليه وجلال المهيمن وعظمته متجلية لديه في كل الأحوال.



فلا غرو إذاً ما تتحدث به الرواة من الرهبة والخشية التي تلفه عند المثول أمام المولي عز شأنه لأداء فريضة الصلاة فتضطرب أعضاؤه ويصفر لونه ولا يتحرك منه شيء إلا ما حركه الريح(13). وإذا قيل له في ذلك يقول (عليه السّلام):



أتدرون إلي من أقوم ومن أريد أن أناجي(14)، إني أريد أن أتأهب للقيام بين يدي ملك عظيم وإذا دخل في الصلاة يصلي صلاة مودع لا يصلي بعدها(15).



صومه (عليه السّلام):



الصيام من أقوي الوسائل في رياضة النفس وتقوية الإرادة وتعويد النفس علي الصبر. ونوجز القول: هو الرمز العملي بضبط النفس في دين الله. لذلك كان من أركان الدين الإسلامي وطريقاً من طرق الوصول إلي حقيقة التقوي التي هي التعبير العملي عن أخذ المسلم نفسه بالإسلام. قال سبحانه وتعالي: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون) [سورة البقرة: الآية 183]. والإمام زين العابدين كان شديد الاجتهاد في العبادة، نهاره صائم وليله قائم. قال الإمام الصادق (عليه السّلام): (كان علي بن الحسين شديد الاجتهاد في العبادة، نهاره صائم وليله قائم، فأضر ذلك بجسمه فقلت له: يا أبه كم هذا الدؤوب! فقال: أتحبب إلي ربي لعله يزلفني)(16). وأثناء صيامه كان كريماً جداً كثير الصدقات.



قال الإمام الصادق أيضاً (عليه السّلام):



(إنه كان علي بن الحسين إذا كان اليوم الذي يصوم فيه يأمر بشاة فتذبح وتقطع أعضاؤها وتطبخ فإذا كان عند المساء أكب علي القدور حتي يجد ريح المرقة وهو صائم ثم يقول: هاتوا القصاع، أغرفوا لآل فلان حتي يأتي إلي آخر القدور، ثم يؤتي بخبز وتمر فيكون بذلك عشاؤه)(17).



وروي علي بن أبي حمزة عن أبيه، قال: (سألت مولاة لعلي بن الحسين (عليهما السّلام) بعد موته، فقلت: صفي لي أمور علي بن الحسين (عليه السّلام) فقالت: أطنب أو أختصر؟ فقلت: اختصري، قالت: ما أتيته بطعام نهاراً قط، ولا فرشت له فرشاً بليل قط)(18).



حجه (عليه السّلام)



أمر الله المسلمين بفريضة الحج من استطاع وكان قادراً علي أدائه. قال سبحانه وتعالي: (ولله علي الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين)(19). والإمام السجاد كان يخرج إلي الحج ماشياً وأحياناً علي ناقته، حج عشرين حجة وما فرعها بسوط.



قال سعيد بن المسيب: (كان الناس لا يخرجون من مكة حتي يخرج علي بن الحسين فخرج وخرجت معه فنزل في بعض المنازل فصلي ركعتين سبَّح في سجوده فلم يبق شجر ولا مدر إلا سبحوا معه ففزعت منه فرفع رأسه فقال: يا سعيد فزعت؟ قلت: نعم يا بن رسول الله، قال: هذا التسبيح الأعظم).



وروي سفيان قال: (أراد علي بن الحسين الخروج إلي الحج فاتخذت له أخته سكينة زاداً أنفقت عليه ألف درهم فلما كان بظهر الحرة سيرت ذلك إليه، فلم يزل يفرقه علي المساكين(20) وكان القراء لا يحجون حتي يحج زين العابدين (عليه السّلام) وكان يتخذ لهم السويق، الحلو والحامض، قال سعيد بن المسيب: (ورأيته يوماً وهو ساجد، فوالذي نفس سعيد بيده لقد رأيت الشجر والمدر، والرحل والراحلة يردون عليه مثل كلامه)(21).



وجاء في حياة الحيوان للدميري قال: (إنه لما حج وأراد أن يلبي أرعد واصفرّ وخرّ مغشياً عليه، فلما أفاق سئل عن ذلك، فقال: إني لأخشي أن أقول: لبيك، اللهم لبيك فيقول لي: لا لبيك ولا سعديك، فشجعوه، وقالوا: لا بد من التلبية، فلما لبي غشي عليه حتي سقط عن راحلته وكان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة، كان كثير الصدقات وكان أكثر صدقته بالليل، وكان يقول: صدقة الليل تطفئ غضب الرب)(22).



النصوص علي خصوص إمامته:



ورد عن محمد بن مسلم، قال: (سألت الصادق، جعفر بن محمد، (عليهما السّلام) عن خاتم الحسين بن علي (عليهما السّلام) إلي من صار؟ وذكرت له أني سمعت أنه أخذ من إصبعه فيما أخذ. قال (عليه السّلام): ليس كما قالوا، إن الحسين (عليه السّلام) أوصي إلي ابنه علي بن الحسين (عليه السّلام) وجعل خاتمه في إصبعه، وفوض إليه أمره. كما فعله رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بأمير المؤمنين (عليه السّلام) وفعله أمير المؤمنين بالحسن (عليه السّلام) وفعله الحسن بالحسين (عليه السّلام) ثم صار ذلك الخاتم إلي أبي (عليه السّلام) بعد أبيه ومنه صار إليّ فهو عندي وإني لألبسه كل جمعة وأصلي فيه قال محمد بن مسلم: فدخلت إليه يوم الجمعة وهو يصلي، فلما فرغ من الصلاة مد إليّ يده فرأيت في إصبعه خاتماً نقشه: لا إله إلا الله عدة للقاء الله، فقال: هذا خاتم جدي أبي عبد الله الحسين بن علي (عليه السّلام)(23).



وجاء عن أبي جعفر الباقر (عليه السّلام) قال: إن الحسين (عليه السّلام) لما حضره الذي



حضره دعا ابنته فاطمة الكبري فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصية ظاهرة، وكان علي بن الحسين مريضاً لا يرون أنه يبقي فلما قتل الحسين (عليه السّلام) ورجع أهل بيته إلي المدينة دفعت فاطمة الكتاب إلي علي بن الحسين، ثم صار ذلك الكتاب والله إلينا يا زياد(24).



وروي الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: كنت عند الحسين بن علي (عليهما السّلام) إذ دخل علي بن الحسين الأصغر فدعاه الحسين وضمه إليه ضماً، وقبل ما بين عينيه، ثم قال: بأبي أنت وأمي ما أطيب ريحك، وأحسن خلقك.



قال: فتداخلني من ذلك فقلت: بأبي أنت وأمي يا بن رسول الله إن كان ما نعوذ بالله أن نراه فيك فإلي من؟ قال: علي ابني هذا هو الإمام ابو الأئمة. قلت: يا مولاي هو صغير السن؟ قال: نعم، إن ابنه محمد يؤتم به وهو ابن تسع سنين ثم يطرق قال: ثم يبقر العلم بقراً(25).



وجاء في المصدر نفسه:



سأل رجل الحسين (عليه السّلام): أخبرني عن عدد الأئمة بعد رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم).



فقال (عليه السّلام): اثنا عشر، عدد نقباء بني إسرائيل فقال: فسمهم لي؟



فأطرق الحسين (عليه السّلام) ثم رفع رأسه فقال: نعم يا أخ العرب إن الإمام والخليفة بعد رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) علي بن أبي طالب، والحسن وأنا وتسعة من ولدي منهم علي ابني، وبعد ابنه محمد الخ...(26).



وقد شهدت نصوص كثيرة متواترة علي إمامة السجاد وأنه الحجة علي الأمة بعد أبيه سيد الشهداء (عليه السّلام) فيروي أبو خالد الكابلي عن علي بن الحسين أن أباه الحسين قال له: دخلت علي رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فرأيته مفكراً فقلت له: مالي أراك مفكراُ؟ قال: إن الأمين جبرائيل أتاني وقال: العلي الأعلي يقرؤك السلام ويقول قد قضيت نبوتك واستكملت أيامك فاجعل الاسم الأعظم وآثار علم النبوة عند علي بن أبي طالب فإني لا أترك الأرض إلا وفيها عالم يعرف به طاعتي وولايتي وإني لم أقطع علم النبوة من الغيب من ذريتك كما لم أقطعها من ذريات الأنبياء الذين كانوا بينك وبين أبيك آدم ذكر أسماء الأئمة القائمين بالأمر بعد علي بن أبي طالب وهم: الحسن والحسين أولهم ابنه علي وآخرهم الحجة بن الحسن(27). وقد سئل الإمام أبو جعفر الباقر بم يعرف الإمام؟ قال (عليه السّلام): يعرف بالنص عليه من الله تعالي ونصبه علماً للناس حتي يكون عليهم حجة وقد نصب رسول الله علياً (عليه السّلام) وعرف الناس باسمه وعينه لهم وكذلك الأئمة ينصب الماضي من يكون بعده ويعرف الإمام بأن يسأل فيجيب ويبتدئ إن سكت الناس عنه ويخـــبرهم بما يكون في غـــد بعهد واصل إليه من رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وذلك بــما نزل به جبرائيل من أخبار الحوادث الكائنة إلي يوم القيامة(28).



وتابع الإمام الباقر بقوله:



(نحن منبت الرحمة وشجرة النبوة ومعدن الحكمة ومصابيح العلم وموضع الرسالة ومختلف الملائكة وموضع سر الله في عباده وحرمه الأكبر وعهده المسؤول عنه، فمن أوفي بعهد الله فقد وفي، ومن خفره فقد خفر ذمة الله وعهده فعرفنا من عرفنا وجهلنا من جهلنا نحن الأسماء الحسني التي لا يقبل الله من العباد عملاً إلا بمعرفتنا ونحن والله الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه بالرأفة والرحمة ووجهه الذي منه يؤتي وبابه الذي يدل عليه وخزان علمه وتراجمة وحيه وأعلام دينه والعروة الوثقي والدليل الواضح لمن اهتدي وبنا أثمرت الأشجار وأينعت الثمار وجرت الأنهار ونزل الغيث من السماء ونبت عشب الأرض. وبعبادتنا عبد الله ولولانا ما عرف الله وأيم الله لولا وصية سبقت وعهد أخذ علينا لقلت قولاً يعجب منه الأولون والآخرون)(29).



ثم إن الإمامة خلافة وهي من المولي سبحانه وسر من أسراره أوحي بها إلي نبي الأمة ليعرفهم القائم من بعده ومن يجب الركون إليه وأخذ معالم الدين منه وقد أودعها المهتمين جل شأنه في ذرية الرسول الأعظم بعد أن طهرهم من الرجس والريب وزكاهم من العيب وارتضاهم أعلاماً لعباده يسلكون بهم لأحب الطريق. كل ذلك لترفع الضغائن وتتم معرفة المعبود تعالي وتعقد صلات التآخي وتتم أنظمة الحياة.



وجاء في المصدر نفسه عن الشيخ الطوسي قال:



(وفي ليلة وفاته (صلّي الله عليه وآله وسلّم) دعا أمير المؤمنين علياً (عليه السّلام) وقال له: يا أبا الحسن أحضر صحيفة ودواة ثم أملي رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وصيته حتي انتهي إلي بيان الخلفاء من بعده فقال: يا علي سيكون من بعدي اثنا عشر إماماً فأنت يا علي أولهم سماك الله في سمائه علياً المرتضي وأمير المؤمنين والصديق الأكبر والفاروق الأعظم والمأمون فلا تصلح هذه الأسماء لأحد غيرك إلي أن قال: وأنت خليفتي علي أمتي من بعدي فإذا حضرتك الوفاة فسلمها إلي ابني الحسن البر الوصول فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلي ابني الحسين الشهد الزكي المقتول، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلي ابنه علي (سيد العابدين ذي الثفنات) فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلي ابنه محمد الباقر (باقر العلم) فإذا حضرته الوفاة فليسلمها جعفر الصادق فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلي ابنه موسي الكاظم فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلي ابنه الرضا فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلي ابنه محمد الثقة التقي فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلي ابنه علي الناصح فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلي ابنه الحسن الفاضل فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلي ابنه محمد المستحفظ من آل محمد)(30).



إن الوصية أمر محتوم علي كل مسلم يوصي بها قبل وفاته لأشخاص أمناء يثق بهم ويسجل كل ما يهمه أمره لكي ينفذ بعد أم يتوفاه الله عز وجل. والنبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) هو أولي بالمؤمنين من أنفسهم فهل يمكن أن تحضره الوفاة ويبقي ساكتاً دون أن يوصي أمر الخلافة لأناس ثقاة علماء أمناء ينفذون الوصية بحذافيرها كما نص عليها خاتم النبيين والرسل, وكلنا يعلم مدي أهمية هذه الرسالة الإنسانية العظيمة وأهمية نشرها بين عباد الله وشرحها وتعليمها. إنها الرسالة الإلهية التي تصلح شؤون العباد في حياتهم الفردية وفي حياتهم الاجتماعية، كما تصلح شؤون العباد في كل زمان ومكان ومن جميع أمم الأرض. والله سبحانه وتعالي أعلم أين يوضع رسالته فقد كلف الأئمة المعصومين معدن الحكمة ومنبت الرحمة ومصابيح العلم وموضع سره في حرمه الأكبر.



هؤلاء قال فيهم الأدباء وتغني بمجدهم الشعراء ونطق بفضلهم العلماء.



من هؤلاء قال الشيخ إبراهيم يحيي العاملي من قصيدة مدح بها الإمام زين العابدين قال:



ما غـــــاب عن أفــــق الشريعة كوكب إلا وجــــــــاء بـــكـــــوكــــب وقــــــاد



إن المهيمـــــن ليــــس يــــخلي أرضه مــــــن حـــــــجة متــــــستر أو بـــــاد



لولا إمام الحـــــق مــــا بقــــي الوري والجــســـــم لا يـــــــبقي بغـــــير فؤاد



كن كيــــف شـــئت فقد أصبت هدايتي بهداهــــــم وبــــــلغت كـــــــــل مرادي



ما ضـــــرني أن ضل عن طرق الهدي غيـــــــري إذا كــــتب الإلــــه رشادي



مــــــن صُدّ عن عين الحياة ومات من ظمأ فلا سقيت عظام الصـادي(31)



وإلي هذه الظاهرة أشار الشيخ المفيد في كتابه الإرشاد كلمة ثمينة حيث قال: (كان الإمام علي بن الحسين أفضل خلق الله بعد أبيه علماً وعملاً فهو أولي بأبيه وأحق بمقامه من بعده بالفضل والنسب والأولي بالإمام الماضي أحق بمقامه من غيره بدلالة آية ذوي الأرحام وقصة زكريا (عليه السّلام.



قبسات من أخلاقه ومناقبيته:



جاء في طبقات ابن سعد أن علي بن الحسين (عليه السّلام) كان ثقة مأموناً، كثير الحديث، عالياُ، رفيعاً، ورعاً.



وروي الشيخ الصدوق قال: قلت لمحمد بن شهاب الزهري: لقيت علي بن الحسين؟ قال: نعم لقيته وما لقيت أحداً أفضل منه والله ما علمت له صديقاً في السر ولا عدواً في العلانية، فقيل له: وكيف ذلك، فقال لأني لم أر أحداً وإن كان يحبه إلا وهو لشدة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً وإن كان يبغضه إلا وهو لشدة مداراته له يداريه.



وكان الإمام السجاد يقدر العلم والعلماء سواء أكان أحدهم رفيعاً في أعين الناس أم كان غير رفيع ما دام عنده علم ينتفع به الناس، وإذا دخل المسجد يتخطي الناس حتي يجلس إلي جانب رجل متواضع اسمه زيد بن أسلم، فقال له نافع بن جبير عاتباً: غفر الله لك أنت سيد الناس تتخطي خلق الله وأهل العلم وقريشاً حتي تجلس مع هذا العبد الأسود، فقال له الإمام (عليه السّلام): (العلم يقصد حيث كان) وكأنه يقصد إلي الحكمة القائلة: (الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها أخذها) والإنسان في أي زمان لا يهمه القائل بقدر ما يهمه القول الصادر عن أي لسان.



أجمع المؤرخون علي أن الإمام زين العابدين قد انصرف إلي العبادة والعلم والدراسة والتعليم لأنه وجد في ذلك غذاء لروحه وسلوة لقلبه وأنساً لنفسه. وإلي جانب انصرافه إلي نشر العلم والفقه كان رحيماً بالناس وجواداً سخياً وخلوقاً حليماً.



روي الكليني في الكافي قال: (ما تجرعت جرعة أحب إلي من جرعة غيظ لا أكافئ بها صاحبها، ووقف عليه رجل من بني عمومته فاسمعه كلاماً مراً وشتمه، فلم يكلمه، فلما انصرف قال لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحب أن تبلغوا معي حتي تسمعوا ردي عليه، فمضوا معه وهو يقول: والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين. فخرج الرجل متوثباً للشر وهو لا يشك أنه إنما جاءه مكافياً له علي بعض ما كان منه، فقال له الإمام زين العابدين: يا أخي إنك كنت قد وقفت علي آنفاً وقلت ما قلت فإن كنت قد قلت ما فيّ فأنا أستغفر الله منه، وإن كنت قد قلت ما ليس فيّ فغفر الله لك، فأقبل عليه الرجل معتذراً وقال: لقد قلت ما ليس فيك وأنا أحق به.



وقال الرواة في مناقبه قال الشبلنجي: (خرج يوماً من المسجد فلقيه رجل فسبه وبالغ في سبه وأفرط، فعاد إليه العبيد والموالي فكفهم عنه وأقبل عليه وقال له: ما ستر عنك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحي الرجل، فألقي عليه حميصه(32) وألقي عليه خمسة آلاف درهم فقال: أشهد أنك من أولاد المصطفي).



ويروي عنه الرواة الكثير عن حلمه وسماحته منها: إن جارية له كانت تحمل إبريقاً وتسكب الماء لوضوئه فسقط من يدها علي وجهه فشجه وسال دمه فرفع رأسه إليها لائماً، فقالت له الجارية: إن الله يقول: والكاظمين الغيظ، فقال: قد كظمت غيظي. فقالت: والعافين عن الناس، فقال: عفا الله عنك، فقالت: والله يحب المحسنين، فقال: أنت حرة لوجه الله.



وعن كرمه (عليه السّلام) روي الواقدي قال: إن هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد المخزومي كان والياً علي المدينة لعبد الملك بن مروان وقد أساء جوار الإمام ولحقه منه أذي شديد، فلما توفي عبد الملك عزله الوليد بن عبد الملك وأوقفه للناس لكي يقتصوا منه، فقال: والله إني لا أخاف لا من علي بن الحسين، فمر عليه الإمام وسلم عليه وأمر خاصته أن لا يتعرض له أحد بسوء، وأرسل له: إن كان أعجزك مال تؤخذ به فعندنا ما يسعك ويسد حاجتك فطب نفساً منا ومن كل من يطيعنا فقال له هشام بن إسماعيل: الله أعلم حيث يجعل رسالته.



هكذا كان يعامل الإمام السجاد خصومه، يعاملهم حسب ما تملي عليه أخلاقه العالية وصفاته النبيلة ومناقبه الكريمة. من ذلك ما صنعه مع مروان بن الحكم ألد أعداء أهل البيت وهو الذي أشار علي الوليد بقتل الإمام الحسين (عليه السّلام) سيد الشهداء، وبقي إلي جانب معاوية يتتبع أهل البيت بالإساءة والأذي وينكل بهم وبشيعتهم بكل ما لديه من وسائل خبيثة. ومع كل ذلك فقد صنع معه كما صنع مع هشام بن إسماعيل وبالغ بالإحسان إليه كما بالغ هو بالإساءة إليه. وذلك يوم ثار أهل المدينة علي الأمويين وضيقوا عليهم ولم يعد لهم ملجأ بها فضاقت الأمور بمروان بن الحكم إلي أبعد حد، مما دعاه إلي استعطاف أبناء المهاجرين والأنصار لأنه لم يجد من يحمي له عيال الأمويين ونساؤهم ويمنع عنهم الثائرون المتربصين الشر بهم في كل حين غير الإمام علي بن الحسين (عليه السّلام) الذي ضم عيال مروان إلي عياله وعاملهم بما كان يعامل به أسرته وعياله.



فإذا كان ذلك غريباً وبعيداً عن أخلاق الناس العاديين وطبائعهم فليس بغريب ولا بعيد علي من اختارهم الله وخصهم بالكرامة والعصمة وجعلهم فوق مستوي البشر في مواهبهم وأخلاقهم وجميع صفاتهم وأعمالهم. إن أخلاق الإمام السجاد من أخلاق أبيه الإمام الحسين وأخلاق جديه الإمام علي بن أبي طالب، أمير المؤمنين وإمام المتقين، ومحمد بن عبد الله خاتم النبيين الرسول الأكرم (صلّي الله عليه وآله وسلّم). فجده الإمام علي (عليه السّلام) عفا عن مروان الذي قاد الجيوش لحربه في البصرة فبعد أن ظفر به ووقع أسيراً في قبضته تركه وأطلق سراحه مع علمه بأنه سينضم إلي معاوية ويحاربه في صفين وبعد أن استتب الأمر لمعاوية واختاره والياً علي المدينة كان يؤذي الإمام الحسن (عليه السّلام) وكانت مجزرة كربلاء من أغلي أمانيه. ومع كل هذه السيئات وهذه الإساءات عفا عنه بعد أن وقع في قبضة يده. ثم قال حكمته: (إذا ظفرت بعدوك فليكن العفو أحلي الظفرين).



وجده الأكرم رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) عفا عن رأس الشرك أبي سفيان بعد أن ظفر به، كما عفا عن زوجته هند بنت عتبة وأحسن إليها بعد عملها الشنيع، عندما شقت بطن الحمزة البطل المؤمن الصنديد واستخرجت كبده ونهشتها بأسنانها وحملتها إلي مكة تتشفي بالنظر إليها. وعفا (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أيضاً عن والد مروان الحكم عندما ظفر به في مكة وقد كان يؤذيه ويسيء إليه بشتي أنواع الإساءة. وبعد أن أظهر الإسلام بعد فتح مكة كان يستهزئ به ويفتري عليه. لكن النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) اكتفي بنفيه مع ولده إلي الطائف كما عفا عن جميع مشركي مكة وجبابرتهم الذين وقفوا في وجه الدعوة الإسلامية المباركة، وعن كل من كان يسيء إليه وقال عندها كلمته المشهورة: (إذهبوا فأنتم الطلقاء) فليس غريباً إذا أحسن الإمام زين العابدين لمن أساء إليه. فهو من سلالة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.



أما عن كرمه (عليه السّلام) فالروايات كثيرة لا تحصي نذكر بعضاً منها.



روي الصدوق عن سفيان بن عيينة أن محمد بن شهاب الزهري رأي علي بن الحسين (عليه السّلام) في ليلة باردة وعلي ظهره دقيق يسعي به إلي جماعة. فقال له: يا بن رسول الله ما هذا؟ أجابه: أريد سفراً أعدوت له زاداً أحمله إلي موضع حريز، قال: فهذا غلامي يحمله عنك، فأبي عليه الإمام (عليه السّلام) فقال: دعني أحمله عنك فإني أرفعك عن حمله. فقال (عليه السّلام): لكني لا أرفع نفسي عما ينجيني من سفري ويحسن ورودي علي ما أرد عليه أسألك بحق الله لما مضيت لحاجتك وتركتني. فلما كان بعد أيام لقيه ابن شهاب وقال: يا بن رسول الله لست أري لذلك السفر الذي ذكرته أثراً، قال (عليه السّلام): بلي يا زهري ليس هو كما ظننت ولكنه الموت وله استعد، إنما الاستعداد للموت تجنب الحرام وبذل الندي في الخير.



وهكذا كان يعمل دائماً، يطرق بيوت الفقراء وهو مثلهم وأكثرهم كانوا يقفون علي أبواب بيوتهم ينتظرونه فإذا رأوه تباشروا به وقالوا: جاءنا صاحب الجراب.



وروي عنه أبو نعيم أنه كانت بيوت في المدينة كثيرة تعيش من صدقات علي بن الحسين (عليه السّلام) ولا تدري من هو فاعل الخير هذا؟ فلماتوفاه الله فقدوا ما كان يأتيهم فعلموا بأنه هو الذي كان يعيلهم، وقالوا: ما فقدنا صدقة السر حتي فقدنا علي بن الحسين زين العابدين. روي الصدوق عن الإمام الباقر أنه كان يعول مائة بيت في المدينة. وكان إذا جاءه سائل يقول: مرحباً بمن يحمل زادي ليوم القيامة ولا يأكل طعاماً حتي يتصدق بمثله.



وروي ابن طاووس عن الإمام الصادق (عليه السّلام) إن علي بن الحسين إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ولا أمة وإذا أذنب عبد له أو أمة يسجل ذلك عليهم، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله ثم يعرض عليهم سيئاتهم فيعترفون بها... ثم يقف بينهم ويقول: ربنا إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا وقد عفونا كما أمرت فاعف عنا فإنك أولي بذلك منا ومن المأمورين ثم يقبل عليهم ويقول: لقد أعتقت رقابكم طمعاً في عفو الله وعتق رقبتي من النار. فإذا كان يوم العيد أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس. وكان يقول:



(إن لله تعالي في كل ليلة من شهر رمضان سبعين ألف عتيق من النار فإذا كان آخر ليلة منه أعتق الله فيها مثلما أعتق في جميعه، وإني لأحب أن يراني الله وقد أعتقت رقاباً في ملكي في دار الدنيا رجاء أن يعتق رقبتي من النار.



مهابته وكراماته:



كان الإمام علي زين العابدين مهاباً معظماً عند الناس جميعاً، له مكانة خاصة في قلوبهم ومركز محتوم ومرموق عند الخلفاء والولاة من أي فريق كان. يدخل عليهم ليجلونه ويحترمونه حتي الذين يحقدون عليه. دخل مرة علي عبد الملك بن مروان وكان حاقداً عليه يدبر له المكايد في الخفاء، فلما نظر إليه مقبلاً وعليه مهابة أبيه وجديه، قام إليه وأجلسه إلي جنبه وأكرمه فسأله الناس كيف تم له ذلك وهم يعلمون ما يكن في قلبه من حقد علي الإمام (عليه السّلام) فقال: لما رأيته امتلأ قلبي رعباً.



ومرة أخري دخل علي مسلم بن عقبة والي المدينة فلما نظر إليه يتجلي مهابة وعظمة قال: لقد ملئ قلبي منه خيفة.



هذا التقدير للإمام السجاد يعود إلي ما تتحلي به شخصيته من صفات خاصة مميزة، فعلم غزير في جميع العلوم والمعارف الإنسانية وأخلاق كريمة ونبل وعفة وشهامة، وكرم وسخاء إلي كل معوز ومحتاج من عدو وصديق، وشجاعة نادرة في أحرج المواقف وأصعبها، وفقه وورع وتقي في سبيل الله، وصبر وكظم الغيظ من أجل رضي الله. ولا ريب أنه من كان مع الله فإن الله معه. جاء في رواية السبكي في طبقات الشافعية أن هشام بن عبد الملك حج في بعض السنين فجهد أن يصل إلي الحجر الأسود عند الطواف فلم يقدر عليه من كثرة الزحام فنصب له من كان معه منبراً في ناحية من نواحي الحرم وجلس عليه ينظر إلي الناس حتي يخف الزحام عن الحجر ليلمسه، ووقف حوله أهل الشام. في هذه الأثناء أقبل الإمام علي زين العابدين (عليه السّلام) وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً علي حد تعبير السبكي فطاف في البيت فلما بلغ الحجر انفرج له الناس عنه وأفسحوا له المجال ووقفوا إجلالاً له وتعظيماً حتي إذا استلم الحجر وقبله والناس ينظرون إله واجمين. فلما مضي عنه عادوا إلي طوافهم.



هذا وهشام بن عبد الملك ومن معه من أهل الشام يرون كل ذلك ونفس هشام تتحرق غيظاً وحسداً. التفت رجل من أهل الشام وسأل هشام بن عبد الملك: من هذا الذي قد هابه الناس هذه المهابة. فقال هشام: لا أعرفه!! مخافة أن يرغب فيه أهل الشام. وكان الفرزدق الشاعر حاضراً، فقال: أنا أعرفه، فقال الشامي: ومن هو يا أبا فراس؟ فقال الفرزدق ومضي في وسط تلك الجموع المحتشدة يقول علي البديهة:



هــــذا الذي تعــــــرف البطحاء وطأته والبــــــيت يــــــعرفه والحـــل والحرم



هذا ابن خـــــير عبــــاد الله كــــــــلهم هذا التقي النـــــقي الــــــطاهر الـــعلم



إذا رأتـــــه قــــــريش قـــــال قـــائلها: إلي مــــــكارم هــــــذا يــــنتهي الكرم



ينــــمي إلي ذروة العــــز التي قصرت عـــــن نــــــيلها عرب الإسلام والعجم



يكـــــاد يمـــسكه عـــــــرفان راحــــته ركن الحـــــــطيم إذا مـــــا جاء يستلم



يغــــــضي حــــياءً ويغضيمن مهابته فمــــــا يـــــكلم إلا حيــــــن يـــــــبتسم



مــــــن جـــــده دان فـــضل الأنبياء له وفضــــــل أمتــــــه دانــــــت لـه الأمم



ينــــــشق نـــور الهدي عن نور غرته كالشمـــس ينجاب عن إشراقها الظلم



مشتـــــقة مـــــن رســــــول الله نبعته طابت عــــناصره والخـــيم والشــــــيم



هــــــذا ابــــــن فاطمة إن كنت جاهله بجده أنبــــــياء الله قـــــد خـــــــتـــموا



الله شــــــرفه قـــــــدماً وفـــــــــضـــله جـــــري بــــذاك لـــه في اللوحة القلم



فلـــــــيس قــــــولك: مــن هذا بضائره العرب تعـــــرف مــــن أنكرت والعجم



كلـــــــتا يـــــــديه غــــياث عمّ نفعهما يُســـــتوكفان ولا يــــــعروهما العـــدم



سهـــــــل الخــــليقة، لا تخشي بوادره يزيـــــنه اثــنان: حسن الخلق والكرم



حمّــــــال أثـــــقال أقـــــــوام إذا قدحوا حلــــــو الشــــــــمائل تحـلو عنده نعم



لا يخـــــلف الـــــوعد ميــــمون نقيبته رحب الفــــــناء أريـــــــب حين يعتزم



مـــــــا قــــــال لا قــــط: إلا في تشهده لولا التــــــشهد كـــــــانت لاؤه نــــــعم



عــــــم البــــــرية بـــالإحسان فانقلعت عنه الغيـــــــابة والامـــــــلاق والعـدم



مــــــن مـــــعشر حبهم دين، وبغضهم كفـــــر وقــــــربهم منـــــجي ومعتصم



إن عــــــد أهـــــل التـقي كانوا أئمتهم أو قيل من خــير أهل الأرض قيل: هم



لا يـــــــستطيع جــــــواد بـــعد غايتهم ولا يــــــدانيــــــهم قــــــوم وإن كرموا



هـــــم الغيــــــوث إذا مكا أزمة أزمت والأســـــد أسد الشري والبأس محتدم



لا ينــــــقص العسر بـــسطاً من أكفهم سيّان ذلـــك إن أثـــــــروا وإن عـدموا



يستــــــدفع الســــــوء والبلوي بحبهم ويســــــتزاد بــــــه الإحــــسان والنعم



مقدّم بــــــعد ذكــــــر الله ذكـــــــرهـــم في كل بـــــــدء ومخــــــتوم بــه الكلم



يــــــأبي لـــــهم أن يـحل الذم ساحتهم خير كــــــريم وأيـــــد بالــــندي هضم



أي الخـــــــلائق ليــــــست فـي رقابهم لأولــــــيـــــــة هــــــــذا أولــــــــه نعم



مـــــــن يـــــــعرف الله يعرف أولية ذا والدين من بيت هذا ناله الأمم(33)



لقد كانت هذه القصيدة صفعة قاسية علي هشام نزلت علي رأسه كالصاعقة، تحدي بها الفرزدق سلطان أولئك الحكام الجبابرة المعتزين بملكهم وجيوشهم وأموالهم وقصورهم ولكن فاتهم أن كل ذلك لم يغنهم شيئاً في ذلك الموقف الذي تتدافع فيه الجماهير من كل حدب وصوب متسابقة للمس الحجر الأسود حتي إذا أقبل الإمام زين العابدين (عليه السّلام) وقف له الناس إجلالاً وتعظيماً وأفرجوا له الطريق واستلم الحجر وقبله بكل يسر. ولما قضي الإمام حاجته وترك المكان عاد الناس يتسابقون ويتدافعون؛ هذا وأهل الشام ينظرون إلي هذا المشهد الغريب وينتظرون من يعرفهم بذلك الشاب الذي هابه الناس وعظموه بعد أن تجاهله خليفتهم وظهر مخجولاً أمام أهل الشام، بعد أن كان يزعم لهم أنه هو وأسلافه الأمويون هم آل الرسول الذي أمر الله بمودتهم وما كان يتوقع هذه الصفعة القوية من أبي فراس.



يقول الرواة إن هشام بن عبد الملك لما سمع هذه القصيدة غضب علي الفرزدق وأمر بحبسه بمكان يدعي عسفان، بين مكة والمدينة وأوصي بالتضييق عليه، وأضاف الرواة أنه لما بلغ علي بن الحسين امتداحه أرسل له ألف دينار فردها الفرزدق وقال للرسول: إني لم أقل ما قلت إلا غضباً لله تعالي لا للعطاء ولا آخذ علي طاعة الله أجراً. فأعادها الإمام إليه (عليه السلام) وأرسل إليه: نحن أهل البيت إذا وهبنا شيئاً لا نستعيده. فقبلها الفرزدق وبقي في حبس هشام مدة من الزمن وأخيراً هجاه بقصيدة قال فيها:



أيــــحســــبني بين المدينة والتي إليهــــا قلوب الناس تهوي منيبها



يقلــــب رأســاً لم يكن رأس سيد وعــــيـــناً لـــه حـولاء باد عيوبها



يقول الرواة إنه لما بلغه هجاء الفرزدق أمر بإخراجه من السجن عله يخرس لسانه ويكف عن الهجاء(34).



فرحم الله الفرزدق رحمة واسعة فلقد كان في موقفه مع هشام بن عبد الملك من أفضل المجاهدين في سبيل الله حسبما جاء عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) الذي قال: (أفضل المجاهدين في سبيل الله الحمزة بن عبد المطلب ورجل قال كلمة حق في وجه سلطان جائر).



فضائله (عليه السّلام):



كان الإمام السجاد يتخلق بأخلاق النبوة، فهو من سلالة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً, وهو من الأئمة المعصومين الذين كلفوا تكليفاً شرعياً من الله عز وجل لتقويم الإعوجاج ورفع الظلم عن الناس من قبل الطغاة والظالمين، وهداية الناس عامة إلي ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة وخير مجتمعهم ليعيشوا أمة كريمة حرة تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتنشر الرسالة الإسلامية كما أرادها رب العالمين وكما نفذها الرسول الأكرم والعترة الطاهرة من بعده (عليهم السّلام) أجمعين.



لقد خطا الإمام زين العابدين خطوة أبيه وجديه من قبله وتخلق بأخلاقهم فساعد وضحي وجاهد وصبر وتجرع كثيراً من الويلات والمحن بهمة عالية وإرادة صلبة ونفس كريمة يحسن إلي الجميع حتي الذين أساؤوا إليه. ولم يكتف بالإحسان إلي من كان يسيء إليه بل كان يطلب لهم العفو والمغفرة من الله سبحانه وتعالي.



روي ابن طاووس في الإقبال بسند ينتهي إلي الإمام الصادق (عليه السّلام) إن علي بن الحسين إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ولا أمة وإذا أذنب عبد له أو أمة يسجل ذلك عليهم، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله، ثم يعرض عليهم سيئاتهم فيعترفون بها، فيقول لهم: قولوا يا علي بن الحسين إن ربك قد أحصي عليك كل ما عملت كما أحصيت علينا كل ما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحق لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، وتجد كل ما عملت له حاضراً كما وجدنا كل ما عملنا لديك حاضراً فاعف واصفح يعف عنك المليك ويصفح وهو واقف بينهم يبكي ويقول:



(ربنا إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا وقد عفونا كما أمرت فاعف عنا فإنك أولي بذلك منا ومن المأمورين). ثم يقبل عليهم ويقول: (لقد عفوت عنكم فهل عفوتم ما كان مني إليكم اذهبوا فقد أعتقت رقابكم طمعاً في عفو الله وعتق رقبتي من النار) فإذا كان يوم العيد أجازهم بجوائز تصونهم وتعينهم عما في أيدي الناس.



وكان يقول (عليه السّلام): (إن لله تعالي في كل ليلة من شهر رمضان سبعين ألف عتيق من النار، فإذا كان آخر ليلة منه أعتق الله فيها مثلما أعتق في جميعه، وإني لأحب أن يراني الله وقد أعتقت رقاباً في ملكي في دار الدنيا رجاء أن يعتق رقبتي من النار).



جاء في مطالب السؤول عن محمد بن طلحة الشافعي قال:



(علي بن الحسين زين العابدين (عليه السّلام) زين العابدين، وقدوة الزاهدين، وسيد المتقين، وإمام المؤمنين، وسمته تشهد له أنه من سلالة رسول الله، وسمته تثبت مقام قربه من الله زلفاً، وثفناته تسجل بكثرة صلاته وتهجده وإعراضه عن متاع الدنيا بزهده ينطق فيها، درَّت له أخلاف التقوي فتفوقها، وأشرقت لديه أنوار التأييد فاهتدي بها، وآلفته أبراد العبادة فآنس بصحبتها، وحالفته وصايف الطاعة فتحلي بحليتها، طالما اتخذ الليل مطية ركبها لقطع مفازة الساهرة وظمأ الهواجر دليلاً استرشد به في مغارة الشافرة، وله من الخوارق والكرامات ما شوهد بالأعين الباصرات وثبت بالآثار المتواترة وشهد له أنه من ملوك الآخرة)(35).



وعن سماحته ونبله وعلو أخلاقه جاء في الطبقات الكبري لابن سعد قال إن عبد الله بن علي بن الحسين (عليه السّلام) قال: لما عزل الوليد بن عبد الملك هشام بن إسماعيل عن ولاية المدينة وأوقفه الوليد إلي الناس ليقتصوا منه، وكان يسيء إلي أبي، جمعنا أبي علي بن الحسين وقال: إن هذا الرجل قد عزل وقد أوقفه الوليد للناس فلا يتعرض له أحد بسوء، فقلت يا أبت، والله إن أثره عندنا لسيء وما كنا نطلب إلا مثل هذا اليوم. قال:



يا بني نكله إلي الله، فوالله ما تعرض أحد بسوء من آل الحسين حتي تصرم أمره.



ولم يكتف السجاد بذلك بل أرسل إليه يعرض عليه من الأموال ما يسعه ويسد حاجته، مع أنه كان لا يخاف إلا منه لكثرة ما كان يسيء إليه وإلي أصحابه. وإذا كان ذلك غريباً عن أخلاق الناس وطبائعهم فليس بغريب علي من اختارهم الله وخصهم بالكرامة والعصمة.



وللإمام السجاد أبيات من الشعر مشحونة بالعاطفة الدينية، يرشح منها مناجاة قلبية صعّدها الإمام من صدر حنون يفيض مجبة للقاء وجه الله، وشوقاً للدار الآخرة، وزهداً من هذه الدار الفانية وخوفاً من العقاب، وأملاً في الرحمة والثواب. جاء في مستدرك الوسائل عن طاووس اليماني قال: (رأيت في جوف الليل رجلاً متعلقاً بأستار الكعبة وهو يقول:



ألا أيـــــها الـــمأمول في كل حاجة شــكوت إليك الضر فاسمع شكايتي



ألا يا رجائي أنــــت تكشف كربتي فهب لي ذنوبي كلها واقض حاجتي



فـــــزادي قــــلــيل لا أراه مـــبلغي أللـــــزاد أبـــــكي أم لطول مسافتي



أتيــــــت بأعمال قبــــــاح رديـــــة فما فـــي الوري عبد جني كجنايتي



أتحرقـــــني بــالنار يا غاية المني فأين رجـــــائي ثـــــم أيــن مخافتي



فإذا كان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف بتقاه وصدق عبادته، ولذلك سمي بزين العابدين، والمشهور بفقهه وورعه وأعماله الصالحة يقول: إن زاده قليل وأتي بأعمال ردية فيرجو الله، وهو متعلق بأستار الكعبة، أن يقبل رجاءه، ويقضي حاجته؛ فماذا يقول غيره من المسلمين العاديين وماذا نقول نحن اليوم بعد أن انغمس أكثرنا بملذات هذه الدنيا الفانية، وانجرف الكثير منا نحو تجميع المال متلهياً بالحياة المادية الخالصة. فكيف نواجه خالقنا عندما نقف بين يديه يوم الحساب يوم لا ينفع لا مال ولا بنون ولا أحساب ولا أنساب ولا جاه ولا عشيرة، إلا من أتي الله بقلب سليم. فحسبنا الله ونعم الوكيل.



وجاء في المناقب عن طاووس أيضاً قال:



(رأيته يطوف من العشاء إلي السحر ويتعبد، فلما لم ير أحداً رمق السماء بطرفه وقال: إلهي غارت نجوم سماواتك وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي محمد (صلّي الله عليه وآله وسلّم) في عرصات القيامة. ثم بكي وقال:



وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاك، ولا بنكالك جاهل ولا لعقوبتك متعرض ولكن سولت لي نفسي وأعانني علي ذلك سترك المرخي به علي، فأنا الآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني؟ فوا سوأتاه غداً من الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفين: جوزوا وللمثقلين: حطوا، أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط؟ ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب، أما آن لي أن أستحي من ربي؟) ثم بكي وقال:



(سبحانك تعصي كأنك لا تري، وتحلم كأنك لم تعص، تتودد إلي خلقك بحسن الصنيع كأن بك الحاجة إليهم، وأنت يا سيدي الغني عنهم).



ثم خرّ إلي الأرض ساجداً فدنوت منه وشلت رأسه ووضعته علي ركبتي وبكيت حتي جرت دموعي علي خده فاستوي جالساً وقال: (من ذا الذي أشغلني عن ذكر ربي؟) فقلت: أنا طاووس يا بن رسول الله ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جافون! أبوك الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمك فاطمة الزهراء، وجدك رسول الله قال: (هيهات هيهات يا طاووس دع عني حديث أبي وأمي وجدي، خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشياً وخلق النار لمن عصاه ولو كان قرشياَ، أما سمعت قوله تعالي: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون) والله لا ينفعك غداً إلا تقدمة تقدمها من عمل صالح)(36).



فالنسب في الإسلام هو العمل الصالح، فمن عمل صالحاً وأطاع ربه استقام أمره وكسب رضي الله عليه، فالله خلق الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشياً، وكل الناس سواسية كأسنان المشط ولا فضل لعربي علي أعجمي ولا لأبيض علي أسود إلا بالتقوي. فالمتقون هم أولياء الله من أي جنس كانوا أو أي لون أو أي عرق، فإن الله معهم ما داموا هم معه فهل لنا بهم وبعلي بن الحسين (عليه السّلام) أسوة حسنة؟



وجاء في مستدرك الوسائل عن الأصمعي قال(37):



كنت أطوف حول الكعبة ليلاً فإذا شاب ظريف الشمائل وعليه ذؤابتان وهو متعلق بأستار الكعبة ويقول: (نامت العيون، وعلت النجوم وأنت الحي القيوم، غلقت الملوك أبوابها وأقامت عليها حراسها وبابك مفتوح للسائلين، جئتك لتنظر إليّ برحمتك يا أرحم الراحمين).



ثم أنشأ يقول:



يا مـن يجيب دعاء المضطر في الظلم يـــــا كاشف الضر والبلوي مع السقم



قد نـــــام وفـــــدك حـــول البيت قاطبة وأنـــــت وحــــــدك يـــــا قيّــوم لم تنم



أدعوك يا رب دعـــــاءً قــــد أمرت به فارحم بكائـــــي بــــحق البيت والحرم



إن كان عـــــفوك لا يــرجوه ذو سرف فمن يجـــــود عــــــلي العاصين بالنعم



قال فاقتفيته فإذا هو زين العابدين).



وله (عليه السّلام) حوار مع نفسه حيث يخاطبها كيف تركن إلي الدنيا ألم تأخذ درساً من الماضين قبلها، فأين أجدادنا وآباؤنا وأين الذين فجعوا ومضوا قبلها؟ أليس يكون لها بهم عبرة؟



روي الزهري عنه (عليه السّلام) في المناقب قال:



(يا نفس حتامَ إلي الحياة سكونك؟ وإلي الدنيا ركونك؟ أما اعتبرت بمن مضي في أسلافك؟ ومن وارته الأرض من آلافك؟ ومن فجعت به من إخوانك؟ ثم أنشد:



فهـــــم في بطون الأرض بعد ظهورها محـــــاسنها فيــــــها بـــــــوالي دوائر



خلت دورهـــــم منهم وأقوت عراصهم وســـــاقــــــتهم نـــحو المنايا المقادر



وخلوا عن الدنــــيا ومــــا جمــعوا لها وضمتهم تحت التراب الحفائر(38)



وجاء في حياة الحيوان للدميري:



قال الزهري: (ما رأيت قرشياً أفضل منه) وقال أيضاً(39): (ما رأيت أفقه منه). وقال ابن المسيب: (ما رأيت أورع منه). وقال القندوزي الحنفي: (كان الإمام زين العابدين (عليه السّلام) عظيم التجاوز والعفو، والصفح، حتي أنه سبه رجل فتغافل عنه فقال له: إياك أعني، فقال الإمام: وعنك أعرض. أشار إلي الآية الكريمة: (خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين)(40).



لم يكتف الإمام السجاد بالإحسان إلي من كان يسيء إليه بل كان يطلب لهم المغفرة من الله سبحانه وتعالي.



قال في ذلك: (اللهم إن أعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره، ومن معروف أسدي إلي فلم أشكره ومن مسيء اعتذر إلي فلم أعذره ومن ذي فاقه سألني فلم أوفره ومن عيب مسلم ظهر لي فلم أستره ومن كل إثم عرض لي فلم أهجره، واجعل ندامتي علي ما وقعت فيه من الزلات وعزمي علي ترك ما يعرض لي من السيئات توبة توجب لي محبتك يا محب التوابين.



وقال أيضاً مثل ذلك:



اللهم وأيما عبد نال مني ما حظرت عليه فاغفر له ما ألم به مني واجعل ما سمعت به من العفو عنهم وتبرعت به من الصدقة عليهم في أزكي صدقات المتصدقين وأعلي صلات المتقربين، وعوضني من عفوي عنهم عفوك حتي يسعد كل واحد منا بفضلك وينجو كل منا بمنك.



ومع كل ما قدم وضحي وأعطي وأحسن يري نفسه مقصراً في حقوق الناس، كان صدره واسعاً جداً يستوعب كل هفواتهم ويتسع لكل انحرافاتهم ويسامح ما كان يتجمع في صدورهم من غش وطمع وحقد. يعاملهم بما عنده هو وليس بما عندهم إن البحر الكبير لا تعكر صفوه بضعة أنهار صغيرة تصب فيه، والجسر المتين يتحمل الكثير من الأثقال مهما كانت كبيرة ويبقي صامداً جامداً علي مدي الدهور. وبائع العطر يتلذذ بما يحمل ويؤنس الآخرين بروائح وروده الجميلة.



والنور الساطع يري صاحبه معالم الطريق ويكشف المزالق والعثرات أمام المشاة التائهين.



والشجرة القوية العتيقة جذورها ثابتة في الأرض لا تؤثر فيها الرياح مهما كانت عنيفة، يراشقها المارة بالحجارة فتنزل لهم ثمارها بكل رحابة صدر.



والغيمة المثقلة بالغيث سوف تسقط بخيراتها العميمة علي جميع بقاع الأرض لا تفرق بين بقعة وأخري.



ما قاله العظماء في سيد الحكماء:



أجمع أهل العلم والأدب علي اختلاف ميولهم ونزعاتهم علي أفضلية أهل البيت (عليهم السّلام)، فقد كانوا ينبوعاً فياضاً بالعلم والحكمة، ومنهلاً عذباً للخير والعطاء، ورصيداً هاماً في الأدب والمعرفة. ولم تجتمع الأمة بأسرها علي أفضلية أحد كاجتماعها علي أفضلية أئمة الهدي (عليهم السّلام). ومما يلاحظ أن ما كتبه عنهم كبار العلماء من غير الشيعة أكثر مما كتبه عنهم شيعتهم ومواليهم وهذا دليل واضح أنهم مركز الثقل الذي تركه الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بين ظهراني الأمة، حيث جعلهم حكاماً علي العباد وخلفاء له (صلّي الله عليه وآله وسلّم) علي الناس.



هذه العترة الطاهرة تبدأ بأمير المؤمنين (عليه السّلام) وتختتم بالإمام المهدي (عليه السّلام) اثنا عشر خليفة معصوماً. وجدير بنا أن نرجع إليهم آخذين بتعاليمهم، متبعين لأوامرهم، لنحقق ما نصبوا إليه من خير وسعادة.



وهذه مختارات من كلمات كبار العلماء في الإمام السجاد علي زين العابدين بن الإمام الحسين (عليهما السّلام).



1 - قال علي بن عيسي الأربلي: (فإنه (عليه السّلام) الإمام الرباني، والهيكل النوراني، بدل الأبدال وزاهد الزهاد، وقطب الأقطاب، وعابد العباد، ونور مشكاة الرسالة ونقطة دائرة الإمامة، وابن الخيرتين(41) والكريم الطرفين قرار القلب، وقرة العين، علي بن الحسين.



وما أدراك ما علي بن الحسين: الأواه الأواب، العامل بالسنة والكتاب، الناطق بالصواب، ملازم المحراب، المؤثر علي نفسه، المرتفع في درجات المعارف، فيومه يفوق علي أمسه، المنفرد بمعارفه، الذي فضل الخلائق بتليده وطارفه، وحكم في الشرق فتسنم ذروته، وخطر في مطارفه وأعجز بما حواه من طيب المولد، وكرم المحتد، وزكاء الأرومة، وطهارة الجرثومة، عجز عنه لسان واصفه، وتفرد في خلواته بمناجاتــه، فتعجـــبت الملائـــكة من مواقفه، وأجري مدامعه خوف ربه(42).



2 - وقال الواقدي: كان من أورع الناس وأعبدهم وأتقاهم لله عز وجل، وكان إذا مشي لا يخطر بيديه(43).



3 - وقال سفيان بن عينية: ما رأيت هاشمياً أفضل من زين العابدين



ولا أفقه منه(44).



4 - وقال الإمام مالك: سمي زين العابدين لكثرة عبادته(45).



5 - وقال نافع بن جبير: إنك سيد الناس وأفضلهم.



6 - وقال عمر بن عبد العزيز وقد قام من عنده علي بن الحسين (عليهما السّلام): من أشرف الناس؟



فقالوا: أنتم.



فقال: كلا، فإن أشرف الناس هذا القائم من عندي آنفاً، من أحب الناس أن يكونوا منه، ولم يحب أن يكون من أحد(46).



وقال أيضاً في موضع آخر: سراج الدنيا، وجمال الإسلام، زين العابدين(47).



وقال الزهري: ما رأيت أحداً أفقه من زين العابدين(48).



وقال طاووس اليماني:



(دخلت الحجر في الليل فإذا علي بن الحسين (عليهما السّلام) قد دخل يصلي ما شاء الله تعالي، ثم سجد سجدة فأطال فيها، فقلت: رجل صالح من بيت النبوة لأصغين إليه فسمعته يقول: عبدك بفنائك، مسكينك بفنائك سائلك بفنائك، فقيرك بفنائك. قال طاووس: فوالله ما طلبت ودعوت فيهن في كرب إلا فرج عني)(49).



وقال جابر الأنصاري: والله ما رؤي في أولادي الأنبياء بمثل علي بن الحسين إلا يوسف بن يعقوب (عليه السّلام) والله لذرية علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب، وإن منهم لمن يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً(50).



قبسات من مواعظه:



للإمام زين العابدين جولات ناجحات (عليه السّلام) في المواعظ التي تعد من أعظم الأرصدة الروحية، ومن وانجح الأدوية في معالجة الأمراض النفسية التي تؤدي بالإنسان إلي التردي في متاهات سحيقة من مجاهل هذه الحياة.



وقد اهتم (عليه السّلام) كثيراً بوعظ الناس وأثر عنه الكثير من المواعظ التي وعظ بها أصحابه وأهل عصره، وهي لا تزال حية تحذر الناس من الغرور والطيش وتدعوهم إلي سلوك السبيل الحق في حياتهم الفردية والاجتماعية.



كما أثرت عنه حكم تهدف إلي تهذيب النفوس وإصلاحها، وتوازن الشخصية الإنسانية وازدهارها، وغرس النزاعات الكريمة التي تقضي علي الأنانية والحسد والبغي والشر والتعدي علي حقوق الآخرين.



وله مواعظ هامة تدعو إلي الاتجاه إلي الله تعالي أنبل مقصد وأكرم ملجأ، رحمان رحيم، ينجي الإنسان من كل إثم وشر في هذه الحياة الفانية، ويطلب إليه التزود إلي دار الآخرة التي هي المقر الدائم لكل الخيرين من عباد الله الصالحين.



وسوف نعرض لبعض ما روي عنه في ذلك:



1 - قال عليه السلام: (يا بن آدم لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همك، وما كان لك الخوف شعاراً، والحزن لك دثاراً. يا بن آدم إنك ميت مبعوث وموقوف بين يدي الله عز وجل، ومسؤول فأعدَّ جواباً..)(51).



يدعو الإمام (عليه السّلام) الإنسان لأن يقيم في أعماق نفسه واعظاً منها يعظها ويحاسبها علي كل ما يصدر منها من زلات وهفوات ذلك أنه مبعوث يوم القيامة، يوم الحساب، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا ما أتي الله من قلب سليم؛ حيث يحاسب كل إنسان علي جميع ما اقترفه في حياته من إثم وشر. وعلي كل إنسان أن يحاسب نفسه فيجعل منها رقيباً عليها، فيزجرها عندما تهوي به المزالق الرخيصة والنزاعات الفاسدة التي تغرق صاحبها في وحول الحياة المادية، وعندها يتزود بخير زاد إلي خير معاد.



2 - ومن مواعظه القيمة هذه الموعظة التي كان يعظ بها أصحابه قال (عليه السّلام): (أحبكم إلي الله أحسنكم عملاً، وإن أعظمكم عند الله عملاً أعظمكم في ما عند الله رغبة، وإن أنجاكم من عذاب الله أشدكم خشية لله، وإن أقربكم من الله أوسعكم خلقاً، وإن أرضاكم عند الله أسبغكم علي عياله، وإن أكرمكم علي الله أتقاكم لله تعالي...)(52).



لقد أهتم الإمام (عليه السّلام) اهتماماً بالغاً بمحاسن الأخلاق لذلك طلب إلي أصحابه أن يتحلوا بأحسن الصفات وأن يقوموا بذخائر الأعمال ثم دلهم علي السبيل الذي ينجيهم من عذاب الله في الدار الآخرة من أجل ذلك عليهم أن:



أ - يتقنوا أعمالهم ويحسنوها فعلي المؤمن إذا أراد عملاً أن يكمله ويتقنه.



ب - يرغبون في ما عند الله وهي من أعظم الذخائر، أما الرغبة إلي



غيره تعالي فإنها تؤول إلي الخيبة والخسران.



ج - لا يخافوا إلا الله وأن لا يخشوا إلا هو، فمن أراد النجاة من عذابه تعالي عليه أن يشعر قلبه بالخشية من عزته وجلاله، فهي تصد الإنسان من اقتراف الشر أو الإثم.



د - أن يوسعوا أخلاقهم تجاه الآخرين لأن بحسن الأخلاق يتميز الإنسان عن غيره ومن فقد أخلاقه فقد إنسانيته.



هـ - يتوسعوا علي عيالهم فينفقوا عليهم مما كسبت أيديهم رزقاً حلالاً، وهذا ما يوجب المحبة والمودة والألفة بين أفراد الأسرة، الخلية الأولي في بناء لمجتمع الإنساني.



ح- يتقوا الله، فتقواه تعالي هي الميزان الأصيل في الإسلام وقد دعانا الله في آيات كثيرة إلي التقوي التي هي من الإيمان. قال تعالي: (اتقوا الله إن كنتم مؤمنين)(53).



وجاء في القرآن الكريم الآية: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فمن أراد أن يكون مكرماً عند الله عليه بالتقوي فهي سفينة النجاة وجسر العبور إلي رضوانه عز وجل.



3 - ومن مواعظه القيمة هذه الموعظة الشاملة لمواضيع عدة مؤثرة.



قال عليه السلام:



(كفانا الله وإياكم الظالمين، وبغي الحاسدين، وبطش الجبارين، أيها المؤمنون لا يفتننكم الطواغيت واتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا المائلون إليها، المفتونون بها، المقبلون عليها، وعلي حطامها الهامد(54)، وهشيمها البائد غداً، واحذروا ما حذركم الله منها، وازهدوا في ما زهدكم الله فيه



منها، ولا تركنوا إلي ما في هذه الدنيا ركون من أعدها داراً وقراراً، وبالله إن لكم مما فيها دليلاً من زينتها وتصريف أيامها، وتغييراً نقلاً بها، ومثلا منها).



يحذر (عليه السّلام) من الخضوع للطواغيت والظالمين وأتباعهم من المفتونين بحب الدنيا، والمغرورين بزينتها وبهجتها، هؤلاء جميعاً كانوا من المخربين الذين وقفوا عائقاً علي مناهضة الإصلاح الاجتماعي، ونشر الظلم والفساد في الأرض.



ويتابع (عليه السلام):



(تلاعبها بأهلها، إنها لترفع الخميل، وتضع الشريف، وتورد النار أقواماً غداً، ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمنتبه) يذم الدنيا ويندد بطبيعتها لأنها ترفع الخاملين، وتضع الأحرار والشرفاء، ثم تدفع أقواماً إلي النار، لانحرافهم عن الحق. وإذا كانت طبيعة الدنيا مناصرة الرذائل ومعاكسة القوي الخيرة فالأجدر الزهد فيها، والتجافي عن شهواتها والسعي للظفر بنعيم الآخرة.



ثم يتابع الموعظة (عليه السّلام): (وإن الأمور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مظلمات الفتن، وحوادث البدع، وسنن الجور، وبوائق الزمان، وهيبة السلطان(55)، ووسوسة الشيطان لتثبط القلوب عن نيتها، وتذهلها عن موجود الهدي، ومعرفة أهل الحق إلا قليلاً ممن عصم الله، ونهج سبيل الرشد، وسلك طريق القصد، ثم استعان علي ذلك بالزهد، فكرر الفكر، واتعظ بالعبر، وازدجر، فزهد في عاجل بهجة الدنيا، وتجافي عن لذاتها، ورغب في دائم نعيم الآخرة، وسعي لها سعيها، وراقب الموت، وشنأ الحياة مع القوم الظالمين، فعند ذلك نظر إلي ما في الدنيا بعين نيرة، حديدة النظر، وأبصر حوادث الفتن، وضلال البدع، وجور الملوك الظلمة، فقد لعمري، استدبرتم من الأمور الماضية في الأيام الخالية من الفتن المتراكمة، والانهماك فيها، ما تستدلون به علي تجنب الغواة وأهل البدع والبغي والفساد في الأرض بغير الحق، فاستعينوا بالله، وارجعوا إلي طاعته، وطاعة من هو أولي بالطاعة من طاعة من اتبع وأطيع).



أبدي (عليه السّلام) ما كانت تواجهه الأمة في عصره الكثير من ألوان الأسي المرير والفتن المذهلة، وحوادث البدع، وطرق الجور من قبل الحكام الأمويين الذين أغرقوا البلاد بالفتن والظلم والتعسف. فكان وقع تلك الأحداث شديداً علي الأمة، فقد ثبطت القلوب عن نياتها، وأبعدتها عن طريق الحق والرشاد.



ثم تابع محذراً (عليه السّلام) (فالحذر الحذر من قبل الندامة والحسرة، والقدوم علي الله، والوقوف بين يديه، وتالله ما صدر قوم قط عن معصية الله إلا إلي عذابه، وما آثر قوم قط الدنيا علي الآخرة إلا ساء منقلبهم، وساء مصيرهم، وما العلم بالله والعمل بطاعته إلا إلفان مؤتلفان، فمن عرف الله خافه، فحثه الخوف علي العمل بطاعة الله، وإن أرباب العلم وأتباعهم، الذين عرفوا الله فعملوا له، ورغبوا إليه وقد قال الله تعالي: (إنما يخشي الله من عباده العلماءُ)(56). فلا تلتمسوا شيئاً في هذه الدنيا بمعصية الله، واشتغلوا في هذه الدنيا بطاعة الله، واغتنموا أيامها، واسعوا لما فيه نجاتكم غداً من عذاب الله، فإن ذلك أقل للتبعة، وأدني من العذر، وأرجي للنجاة، فقدموا أمر الله وطاعته، وطاعة من أوجب الله طاعته بين يدي الأمور كلها، ولا تقدموا الأمور الواردة عليكم من طاعة الطواغيت، وفتنة زهرة الدنيا بين يدي أمر الله وطاعته، وطاعة أولي الأمر منكم، واعلموا أنكم عبيد الله، ونحن معكم، يحكم علينا وعليكم سيد حاكم غداً، وهو موقفكم، ومسائلكم، فأعدوا الجواب قبل الوقوف والمساءلة والعرض علي رب العالمين، يومئذٍ لا تكلم نفس إلا بإذنه).



يدعو الإمام (عليه السّلام) إلي طاعة الله تعالي، وطاعة أئمة الحق والهدي الذين يهدون الناس إلي الصراط المستقيم ويهدونهم إلي سبل النجاة، والذين يمثلون إرادة الأمة ووعيها، ويحققون لها جميع ما تصبو إليه من العزة والحرية والكرامة. كما دعا (عليه السّلام) إلي التمرد علي أئمة الجور الظالمين وعدم الركون إليهم أو التعاون معهم، لأن التعاون كما أراده تعالي، هو مع البررة الأتقياء وليس مع الفجرة السفهاء. (وتعاونوا علي البر والتقوي ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان) [سورة المائدة: الآية2].



ثم يتابع (عليه السّلام): (واعلموا أن الله لا يصدق كاذباً ولا يكذب صادقاً، ولا يرد عذر مستحق، ولا يعذر غير معذور، بل لله الحجة علي خلقه بالرسل والأوصياء بعد الرسل، فاتقوا الله واستقبلوا من إصلاح أنفسكم، وطاعة الله وطاعة من تولونه فيها، لعل نادماً قد ندم علي ما فرط بالأمس في جنب الله وضع من حق الله، واستغفروا الله وتوبوا إليه فإنه يقبل التوبة، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون، وإياكم وصحبة العاصين، ومعونة الظالمين ومجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم وتباعدوا من ساحتهم، واعلموا أنه من خالف أولياء الله، ودان بغير دين الله، واستبد بأمره دون أمر ولي الله، ونار تلهّب، تأكل أبداناً، قد غابت عنها أرواحها، وغلبت عليها شقوتها، فهم موتي لا يجدون حر النار، فاعتبروا يا أولي الأبصار، واحمدو الله علي ما هداكم، واعلموا أنكم لا تخرجون من قدرة لله إلي غير قدرته، وسيري الله عملكم ثم إليه تحشرون، فانتفعوا بالعظة، وتأدبوا بآداب الصالحين)(57).



حث المؤمنين (عليه السّلام) علي تقوي الله وطاعته لأنهما أساس سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة فبهما يستقيم سلوكه ويكون محترماً كريماً بين قومه، وعن طريقهما تزدهر حياته ويكسب رضي الله تعالي وسعادته التي ما بعدها سعادة.



تعد هذه الموعظة من غرر مواعظ الإمام (عليه السّلام) ذلك أنها لم تقتصر علي الدعوة إلي الزهد في الدنيا والعمل للآخرة، وإنما كانت من الوثائق الاجتماعية والسياسية والأدبية.



4 - ومن مواعظه أيضاً:



سأله رجل فقال له: كيف أصبحت يا بن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم)؟ فقال (عليه السّلام): (أصبحت مطلوباً بثمانٍ:



الله يطالبني بالفرائض، والنبي يطالبني بالسنة، والعيال بالقوت، والنفس بالشهوة، والشيطان باتباعه، والحافظان بصدق العمل، وملك الموت بالروح، والقبر بالجسد، فأنا بين هذه الخصال مطلوب)(58).



إذا تأملنا ملياً أبعاد الحياة رأيناها محاطة بهذه الأمور الثمانية، وإذا نظرنا إلي ما حولنا وجدنا أكثر الناس يحتفلون بمباهجها ويهتمون بزينتها ومفاتنها، لكنهم لو تبصروا أكثر وأمعنوا الفكر لصمموا علي الزهد فيها لأنها فانية زائلة لا تدوم.



5 - وفي هذا المجال قال (عليه السّلام) الموعظة التالية:



(لو كان الناس يعرفون جملة الحال في صواب التبيين، لأعربوا عن كل ما يتلجلج في صدورهم، ولوجدوا من برد اليقين ما يغنيهم عن المنازعة إلي كل حال سوي حالهم، وعلي أن إدراك ذلك كان لا يعدمهم في الأيام القليلة العدة، والفكرة القصيرة المدة، ولكنهم من بني مغمور بالجهل ومفتون بالعجب ومعدول بالهوي من باب التثبت، ومصروف بسوء العادة عن فضل التعلم)(59).



لو أمعن الإنسان النظر وأطال التفكير في شؤون هذا الكون لآمن إيماناً لا يخامره الشك بأن هناك خالقاً للكون ومدبراً له يخضع كل شيء لإرادته وقضائه، وإذا آمن ذلك لوجد برد اليقين في نفسه وعاش آمناً مطمئناً لكثير من المشاكل والمصاعب التي تعترضه في حياته القصيرة الأمد، ولكن هل يعتبر؟ وأني له ذلك وهو يعيش في غمرة الجهل يضله الهوي عن تعلم الحقائق ويبعده عن الوصول إلي الحق.

پاورقي

1 - باب الخشوع في الصلاة، ص300.



2 - علل الشرائع للشيخ الصدوق، ج1، ص231.



3 - المناقب لابن شهر آشوب، ج4، ص150.



4 - المصدر نفسه.



5 - المصدر نفسه.



6 - وسائل الشيعة، ج4، ص814، باب تكرار الآية.



7 - مناقب ابن شهر آشوب، ج2، ص251. ومصباح التهجد للشيخ الطوسي، ص510. ومستدرك النوري، ج1، ص248.



8 - عن كامل الزيارة، ص268.



9 - المقبولة الحسينية للشيخ هادي كاشف الغطاء، ص89.



10 - أمالي الشيخ الطوسي، ص47. وبشارة المصطفي، ص80.



11 - الخصال، ج2، ص101.



12 - علل الشرائع، ص88.



13 - الكافي، ج3، ص119.



14 - حلية الأولياء، ج3، ص133.



15 - علل الشرائع، ص88.



16 - المناقب، ج4، ص155.



17 - المصدر نفسه.



18 - علل الشرائع للشيخ الصدوق، ص232.



19 - سورة آل عمران: الآية 97.



20 - كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج2، ص78. والحرة: أرض ذات حجارة.



21 - المناقب، ج4، ص136.



22 - حياة الحيوان، ج1، ص139.



23 - البحار: ج46، ص17، عن أمالي الصدوق، ص144. وراجع أيضاً أئمتنا لعلي محمد علي دخيّل، ص260.



24 - البحار: ج 1، ص18. عن الكافي للكليني، ج1، ص303.



25 - البحار: ج2، ص19. عن كفاية الأثر، ص318بتفاوت. وأئمتنا، ص261 عن كفاية الأثر أيضاً.



26 - كفاية الأثر، ص318.



27 - الإمام زين العابدين لعبد الرزاق الموسوي المقرم، ص34. عن كفاية الأثر، ص311 لعلي بن محمد بن علي الخزار القمي.



28 - المصدر نفسه عن معاني الأخبار للصدوق، ص35.



29 - الإمام زين العابدين للمقرم عن المختصر للحسن الحلي، ص128.



30 - المصدر السابق عن الغيبة للشيخ الطوسي، ص 105. ومختصر البصائر، ص39.



31 - أعيان الشيعة، ج5، ص551.



32 - الحميصة: هي ثوب خز أو صوف معلم.



33 - راجع طبقات الشافعية، ج1، ص153.



34 - راجع أيضاً الأغاني، ج20، ص40.



35 - مطالب السؤول، ص202.



36 - المناقب، ج4، ص151.



37 - مستدرك الوسائل، ج2، ص143.



38 - المناقب لابن شهرآشوب: ج4، ص152.



39 - حياة الحيوان، ج1، ص139. ونور الأبصار، ص162.



40 - الصواعق المحرقة، ص120.



41 - ابن الخيرتين: لقوله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) (إن لله تعالي من عباده خيرتان: فخيرته من العرب قريش، ومن العجم فارس). راجع: وفيات الأعيان، ج2، ص431.



42 - كشف الغمة، ص209.



43 - البداية والنهاية، ج9، ص104.



44 - المناقب، ج2، ص258.



45 - بحار الأنوار، ج11، ص18.



46 - كشف الغمة، ص199.



47 - أعيان الشيعة، ج4، ص44.



48 - زين العابدين لسيد الأهل، ص43.



49 - الفصول المهمة، ص201.



50 - بحار الأنوار، ج11، ص19.



51 - تاريخ اليعقوبي، ج3، ص46.



52 - زين العابدين للقرشي، ص61. عن روضة الكافي، ص158.



53 - سورة المائدة: الآية112.



54 - الهامد: البالي.



55 - لعل الأصح ورهبة السلطان.



56 - سورة فاطر: الآية25.



57 - تحف العقول، ص252 وما بعدها. وأمالي المفيد، ص117. وروضة الكافي، ص138.



58 - زين العابدين للقرشي، ص50.



59 - البيان والتبيين، ج1، ص84. وزهر الآداب، ج1، ص102.