بازگشت

ابعاد التوقف علي المشارف


ينبغي لفت النظر الي أمر في غاية الاهمية من الوجهة السياسية وهو السبب الذي من اجله لم يدخل موكب الامام زين العابدين(عليه السلام) الي المدينة مباشرة بل أمر بالتوقف علي مشارفها وهبط هناك وارسل مندوباً عنه الي اهل المدينة ينعي الحسين(عليه السلام) ويعلمهم بوجود موكب السبايا باطراف المدينة.



قد تكون العلة في ذلك احد الاحتمالات التالية، او أنَّ هذه الامور مجتمعة تكوّن العلة التامة لسياسة الامام زين العابدين(عليه السلام) في هذا الشأن:



أ ـ لقد اراد زين العابدين(عليه السلام) اين يعطي زخماً سياسياً عالياً ـ حسب المستطاع ـ يتناسب وحجم ملحمة كربلاء. وقد كان يتوقع أن يخرج اهل المدينة بأسرهم استجابة للحدث العظيم، واستماعاً للبيان التأريخي الذي سيدلي به فيما يخص الحادث.



ان تحقيق مثل هذا المطلب ليحتاج الي مكان رحيب جداً، يستوعب عشرات الالوف من المدنيين رجالاً ونساء وصبياناً. في الوقت الذي قد ارتفعت الكثافة السكانية للمدنيين فلقد كانت المدينة الي عهد قريب عاصمة الامة الاسلامية.



ومن نافلة القول أنه ليس بالامكان ان يضم بيت من البيوت مهما اتسع، ولا المسجد النبوي تلك الاعداد الغفيرة. فاختار الامام زين العابدين(عليه السلام) افضل الاماكن من حيث المساحة أرضاً فضاء رحيبة خارج المدينة، تتسع لاكبر كمّ جماهيري يناله الاحتمال.



ب ـ اراد الامام زين العابدين(عليه السلام) ان يعرف حجم الاستجابة الواعية لملحمة كربلاء، ومقدار التفاعل معها ـ لا عن طريق النظرة القبلية ـ بل عن طريق التظاهرة الشعبية العارمة التي تنطلق ـ عن ادراك وارادة ـ نحو المكان الذي يحدده لها خارج المدينة وذلك لايتأتي في ازقة معينة او غير معينة، او المسجد النبوي، او ديار، او غيرها من الاماكن داخل المدينة، قد مرنوا علي ارتيادها يومياً وبصورة عابرة فاختار لهم المكان خارج المدينة. ولقد كان هذا المكان المختار ـ بحق ـ بمثابة المقر العام للقيادة.



جـ ـ في حالة افتراض دخول الامام زين العابدين(عليه السلام) ومن معه الي المدينة مباشرة اي دون الخطّة التي وضعها(عليه السلام) فانه سوف يكون دخولا عادياً غير محرك او فاعل في الساحة الشعبية او السياسية. انهم يدخلون ـ حسب هذا الافتراض ـ كما يدخل الغائب بعد الاياب الي الوطن، او الاسير اذا اطلق سراحه. بينما كان الامام زين العابدين(عليه السلام)يتوخي تحريك الساحة، وتوجيه الانظار الي خط الثورة، والي ما لقيه آل الرسول(صلي الله عليه وآله وسلم) من الاسي والاضطهاد والتعذيب.



د ـ لقد جهد النظام الغاشم في اذلال اهل البيت النبوي اذ قد نقلهم علي أسوأ حال من بلد الي بلد. علي جمال بغير وطاء، موثوقين من العراق الي الشام بالحبال. او كما قال الامام زين العابدين(عليه السلام) في الخطاب الموجّه لاهل المدينة : أيها الناس اصبحنا مطرودين مشردين مذودين وشاسعين عن الامصار، كأنا اولاد ترك وكابل.



فعمد الامام زين العابدين(عليه السلام) في خطته من ايفاد الناس الي خارج المدينة أن يرجع العزة القعساء والكرامة المهدورة. فاذا بالجماهير المدنية تستقبلهم بكل حفاوة واكبار، قاصدين لهم حيث كانوا.



ولقد كان آل الحسين(عليه السلام) حينما سيقوا الي مدينة دمشق قد اظهر سكانها ـ في بداية الامر ـ السرور والشماتة اذ انَّ الاجهزة الاعلامية التضليلية للنظام قد بثت بينهم ان هؤلاء الاسري من الخوارج المارقين عن الدين.. فقابلهم الناس بجفاء وتقطيب. فاستهدف الامام زين العابدين(عليه السلام) من خطته المذكورة ان يزيد اهل المدينة بصيرة الي بصيرتهم وان يستقبلوا آل الحسين(عليه السلام) باجلال وتعاطف بالغين. علي العكس تماماً مما وقع في دمشق إبّان دخول الموكب.



هـ ـ تقدم ما لقي الاسري من آل الحسين(عليه السلام) من القهر والحرمان والعذاب، اضافة الي أثر حرارة الشمس عليهم الذي بان علي اجسادهم، وهم يقطعون المسافات المترامية. واذا افترضنا أنهم دخلوا المدينة مباشرة من دون توقف علي المشارف. فان حالات من الراحة سوف تغمرهم، وترجع اليهم الحياة الطبيعية وتزول عنهم آثار الارهاق والالام شيئاً فشيئاً. ولمّا كانت الاماكن المتوقعة لنزلهم في المدينة لا تتسع لان يزورهم المجتمع المدني جملة واحدة، فلا بد ان تتدرج الزيارة، فيكون اكثر المدنيين بعد انقشاع حالات البؤس والنصب او تخفيفها، ولا يراهم في وضعهم الاول وكما هم عليه الا بعض المدنيين.



كما ان رؤيتهم وهم علي صعيد واحد وفي ساعة واحدة يوحي برد الفعل ضد النظام والتعاطف مع اسري آل محمد(صلي الله عليه وآله وسلم) اكثر مما توحي به رؤيتهم متفرقين قد رجعوا الي بيوتهم.



فاستهدف الامام زين العابدين(عليه السلام) من رؤيتهم بذلك الوضع المؤلم، والمشهد الحزين، كشف جرائم السلطة بحق اهل البيت، وتعرية النظام.



نكتفي بهذا المقدار في ذكر الاسباب التحليلية المحتملة لعدم دخول موكب الامام زين العابدين(عليه السلام) الي المدينة مباشرة، وانما توقّف علي مشارفها بأمر منه(عليه السلام).



لماذا الشعر دون النثر؟



لقد امر الامام زين العابدين(عليه السلام) بشر بن حذلم ان يدخل المدينة وينعي ابا عبد الله الحسين(عليه السلام) ببيتين من الشعر، فلماذا الشعر دون النثر «حسب هذا الموقف» او دون ان يقول له: انع ابا عبدالله، اي بقول مطلق من دون تحديد للنعي نثراً او شعراً.



وهذا سؤال مهم لا يجدر ان نمرّ عليه مر الكرام وذلك باعتباره يلقي الضوء علي احد المواقف السياسية لتحرك الامام زين العابدين(عليه السلام).



أقول: انما كان هذا الامر ـ فيما اعتقد ـ بسبب علم الامام بالدور الفعّال الذي ينهض به الشعر في الاثارة والتأجيج وفي تجسيد الواقعة وبلورة الحادث.



كما ان الامام(عليه السلام) كان بمسيس الحاجة الي التعجيل في تحشيد الجماهير وانتهاز الفرصة قبل اتخاذ النظام لما يسمي بالتدابير الامنية في تفريق المتظاهرين او ايقاف عجلة المعارضة، اي قبل أن تتحرك اجهزة النظام لقطع سير مخطط الامام زين العابدين(عليه السلام) في تحريك الناس وانطلاقهم الي موكب آل الرسول بسرعة واندفاع.



وفي هذا السياق من التسريع بحركة التحشيد وشد الجماهير نلاحظ حكمة الامام في أمره ببيتين من الشعر كما حدده لبشر بن حذلم ولم يقل بقصيدة او عدة ابيات اذ من الواضح ان القاءها يحتاج من الوقت الي اضعاف ما يحتاجه البيتان.