بازگشت

الطاغوت والمحاولة الانهزامية


واستخلي يزيد يوماً بعلي بن الحسين(عليه السلام) ثم قال له: لعن الله ابن مرجانة. أما والله لو أني صاحب أبيك ما سألني خصلة إلا أعطيته اياها، ولدفعتُ الحتف عنه بكل ما استطعت.



قلت:



اعتذر يزيد الي الامام علي بن الحسين(عليه السلام) متناسياً أوامره الي السلطة التنفيذية بقتله ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة، ومتناسياً أنه كان بعد قتله ينكت فمه بمخصرة في يده ويقول: «ليت أشياخي ببدر شهدوا..» وانه أمر أن يُصلب الرأس الشريف علي باب داره، وانه في تلك الحالة دخلت عليه امرأته هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز فوثبت علي يزيد وقالت: أرأس ابن فاطمة علي باب داري، فغطاها يزيد وقال: نعم فاعوِلي عليه يا هند وابكي علي ابن بنت رسول الله وصريحة قريش «فاطمة» عجّلَ عليه ابن زياد فقتله قتله الله(247).



ومنذ ذلك الوقت أخذ ابن معاوية بمحاولة التنصل من الجريمة الكبري، قتل ريحانة رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم)، فتارة يلقي المسؤولية علي الحسين نفسه، واخري يلقي اللائمة واللعنة علي ابن مرجانة «عبيد الله بن زياد». ولا أدلّ علي رضاه بقتل الحسين بل أمره بقتله من الوثيقة التاريخية المذكورة آنفاً، ففي الوقت الذي يصلب رأسه علي باب داره، وزوجته هند تعترض عليه في ذلك يقول: نعم، أي صلبته علي باب داري، فاعولي عليه يا هند وابكي علي ابن بنت رسول الله.



كل ذلك ناتج من إحساس السلطة الغاشمة بعظيم ما ارتكبت، وخطأ ما قدمت، لاحياء من الله تعالي وخوفاً من العذاب الاليم في الدار الاخرة يوم (يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والاقدام)(248) ولا أن لهم ضميراً حياً فبدأ يتيقظ بعد أن تهاوي في الحضيض، ولكن خشية من تفاقم الاوضاع السياسية المتدهورة، وانفجار عبوات الوجدان الاسلامي الذي بدأ يتوثب، ويتساءل ويندهش، حتي في بيت يزيد، مما مرَّ من صنيع هند مع يزيد واستنكارها لموقفه الشائن المقيت، وانه لما دخلت النسوة دار يزيد لم تبق امرأة من آل معاوية إلاّ استقبلتهن بالبكاء والصراخ، والنياحة والصياح علي الحسين، وألقين ما عليهن من الحليّ والحلل. وأقمن المآتم عليه ثلاثة أيام(249).



انّ محاولة التنصل من الجرائم التي تنكشف للعيان سياسة اكثر الحكام الطواغيت منذ العصور المتقدمة حتي العصر الحاضر، فتتظاهر القيادات السياسية المتوغلة في الظلم والغدر بالانسانية والتأسف لما وقع، والاعتذار مما حدث، وتحيل مسؤولية الجرائم علي السلطات التنفيذية، واحياناً تنهكها عقوبة، وتصب عليها جام الغضب والعذاب الاليم.



كل هذا أمر واضح وأمثلته كثيرة جداً، وفي صفحات التأريخ السياسي وتقارير المراقبين شواهد لا تحصي.



بيد أن الامام علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) لم ينخدع بادعاء يزيد ومحاولته الانهزامية، فكاشفه بكل قوة وحزم ـ وجها لوجه ـ : ويلك يا يزيد إنك لو تدري ما صنعت وما ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي اذن لهربت في الجبال، وفرشت الرماد، ودعوت بالويل والثبور.



وفي تأريخ ابن الاثير خبر طريف جداً يؤكد ما مر من الرضا الذي عليه يزيد بن معاوية، والارتياح البالغ لقتل الحسين بن علي(عليهما السلام) ثم الالتجاء الي محاولات التنصل الفارغة التي لم تُجْده أو تسعفه في المقام. فإليك نص الخبر(250):



وقيل: لمّا وصل رأس الحسين إلي يزيد حسنت حال ابن زياد عنده وزاده ووصله وسرّه ما فعل، ثم لم يلبث حتي بلغه بغض الناس له ولعنهم وسبّهم له فندم علي قتل الحسين، فكان يقول : و ما عليَّ لو احتملت الاذي وانزلت الحسين معي في داري وحكّمته فيما يريد، وان كان عليّ في ذلك وهن في سلطاني حفظاً لرسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم)، ورعاية لحقه وقرابته. لعن الله ابن مرجانة فانه اضطره وقد سأله أن يضع يده في يدي أو يلحق بثغر حتي يتوفاه الله، فلم يجبه الي ذلك فقتله، فبغّضني بقتله الي المسلمين، وزرع في قلوبهم العداوة، فابغضني البرّ والفاجر بما استعظموه من قتلي الحسين، ومالي ولابن مرجانة، لعنه الله وغضب عليه!(251).



وفي الشام وقد تراخت قضبان الديكتاتورية شيئاً ما، ولانت أغلالها، وبعد تلك المشادّات الكلامية والمناورات الحادة خرج الامام عليّ بن الحسين(عليه السلام) ذات يوم فجعل يمشي في سوق دمشق، فاستقبله المنهال بن عمرو الضبابي فقال: كيف أمسيت يابن رسول الله؟ فقال: أمسيت والله كبني اسرائيل في آل فرعون. يذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم. يا منهال أمست العرب تفتخر علي العجم بأن محمداً(صلي الله عليه وآله وسلم) عربي، وأمست قريش تفتخر علي سائر العرب بأن محمداً قرشي منها، وأمسينا آل بيت محمد ونحن مغصوبون مظلومون مقهورون مقتولون مشرَّدون مطرودون، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون علي ما أمسينا يا منهال.



وذكر السيد ابو طالب هذا الحديث وزاد فيه : وأصبح خير الامة يُشتم علي المنابر، وأصبح شرّ ألامة يمدح علي المنابر، وأصبح مُبغضنا يُعطي الاموال، ومَن يُحبّنا منقوصاً حقه(252).

پاورقي





(247) الخوارزمي، مقتل الحسين 2 / 74.



(248) الرحمن / الاية 41.



(249) الخوارزمي : مقتل الحسين 2 / 74.



(250) ابن الاثير (ت 630هجرية)، الكامل في التأريخ 4 / 87.



(251) ذكر الطبري في تاريخه 7 / 314 عن عقبة بن سمعان قال: صحبت حسيناً، فخرجت معه من المدينة الي مكة، ومن مكة الي العراق، ولم أفارقه حتي قُتل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكة ولا في الطريق ولا بالعراق، ولا في عسكر، الي يوم مقتله، إلا وقد سمعتها. لا والله ما اَعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية، ولا أن يُسيّروه الي ثغر من ثغور المسلمين ولكنه قال : دعوني فلاذهب في هذه الارض العريضة حتي ننظر ما يصير أمر الناس.



وهذا النص القاطع عن ابن سمعان ينفي ادعاء يزيد من طلب الحسين أن يسير الي ثغر من ثغور المسلمين. والنص أحد الارقام التي تؤكد عمليات التشويه للصورة الناصعة التي عليها الحسين وثورته ويؤكد ان الاغلفة الاعلامية المضللة كانت منذ عهد يزيد.



(252) السيد ابو طالب الموفق الخوارزمي المكي / مقتل الحسين ج2 ص71 ـ 72، واحمد بن اعثم / الفتوح ج5 ص250، وابن نما الحلي (567 ـ 645هـ)، مثير الاحزان ص58.