بازگشت

ما بين السياسة والفصاحة


لابد لنا ـ إتماماً للبحث ـ من أن نلمَّ بالارتباط الوثيق بين الفصاحة والسياسة، فنقول: يختلف المفهوم القيادي في الاسلام عنه في اكثر الدول الراهنة في العالم، إذ انها تفصل بين العقيدة الروحية للشعوب و بين المعتقدات السياسية للدولة فالقيادة فيها معبرة عن كثير من مفاهيمها السياسية المقررة قبلاً، وكثير من مفاهيمها المرتجلة.



ولما كان غير جائز نهائياً فصل السياسة عن الاسلام، إذ ان السياسة من بعض شؤونه، وقسط من أنظمته الشاملة لكيان الحياة اِذن كان علي الامام في الدين، أو علي القائد الاسلامي أن يكون داعية للحياة الروحية، مطبقاً لها، وداعية للسياسة الاسلامية مطبقّاً لها، ولا يجدر اصطناع هوّة ما بين الحياة الروحية والحياة السياسية في نظام القرآن، وفلسفة الاسلام.



اذن فالتوجيه والنصيحة واجبان علي قائد الدولة، فهو موجِّه نحو القضايا الروحية وواعياً لها، وموجّه نحو المفاهيم السياسية وناصحاً في ذلك.



ومن هذا المنطلق تكون للقيادة الاسلامية، بل وكل القيادات السياسية التي تستند الي عقيدة روحية أحوج الي الاساليب المؤثرة من غيرها لاتساع الاُطُر القيادية لعملها وتحركها، بما في ذلك اسلوب الفصاحة النادرة والبيان العذب، لان لهما قوة جذب، وتأثيراً سحرياً علي الاخرين.



نعم نحن أحوج إلي إمام عادل منا الي إمام خطيب، أو قائد فصيح، كما أشار الي ذلك الخليفة الثالث عثمان بن عفان، غير أن الفصاحة تقوم بالدور الاسنادي للعدل، وبوظيفة الدفاع عن المكاسب الخيِّرة، ومكافحة الباطل، والدعوة لسُبُل الخير والنمو والكمال. ولو لا ذلك لما احتاج الخيلفة الي تقديم الاعتذار.



اننا في الوقت الذي نؤكد فيه علي اهمية تزود القيادة السياسية في الاسلام من متاع الفصاحة والبيان لنأخذ بنظر الاعتبار بالتفاوت الزمني بين اُمة واخري، وعصر وآخر. وكذا التفاوت العقلي والذوقي وفلسفة الحياة.



فنحن مثلا نحتاج في المقطع الزمني الراهن لما نسمّيه الفصاحة التربوية، والفصاحة السياسية، كما كان في عصور سالفة حاجة لفصاحة تحقق الانسجام والتناغم مع اللغة والحياة والحقول الفكرية والذوقية والنفسية آنذاك.



اي لابد أن تكون لكل جيل وعصر فصاحة وبيان يتناسبان والحاجات الفعلية والسلوك العام.



لم تزل الفصاحة ميزاناً من موازين التفاضل بين القياديين عند العرب وغيرهم. ولقد حاول فرعون استغلال اللكنة في لسان النبي موسي(عليه السلام) ليجعل من ذلك ذريعة الي التفوق والاهلية، فقال: (ام انا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين)ناسياً او متناسياً الموازين الاخري للتفاضل.



وفي زمن لاحق كان الوليد بن عبد الملك مورداً للانتقاد السياسي والشعبي اذ لم يتسم بالفصاحة، ولقد انتقصه بذلك حتي بعض رجالات العرش الاموي، بينما كان معاصره الامام علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) في الدرجة العليا من درجات اساليب البيان العربي.