بازگشت

المستلزمات القياديّة


لقد اُعطي النبي محمد(صلي الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) مواهب كبري، وطاقات هائلة، في مجالات الابداع الانساني الكثيرة، بحيث تقصّر عنها قدرات أكابر العباقرة، وتتراجع اَمامها كل المواهب الخلاّقة، والامكانات المبدعة، فمن هذه الطاقات ما جاء في خطاب الامام علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) الذي ألقاه في دمشق عام «61» هجرية:



أيها الناس، اُعطينا ستاً وفُضلنا بسبع: اُعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين(136).



ونكتفي بتحليل هذه الطاقات الست ومحاولة سبر ابعادها بصورة ما لنستخلص من ذلك أهلية الامام زين العابدين(عليه السلام) لقيادة العالم الاسلامي.



علي أن في مجمل البحوث الاخري ما يدل علي الاهلية أيضاً.



التذكـير بالمواهـب الست، والفضـائل السبع في خطاب الامام زين العابدين سلام الله عليه في عاصمة الدولة الاموية، وفي محضر يزيد بن معاوية، واستماع قادته، وحشد من الجماهير، ان كل ذلك للتدليل علي التفوق المعنوي، وتوفر الشرائط القيادية لاهل البيت النبوي، فكأن الامام زين العابدين(عليه السلام) يريد أن يقول إني وأبي الحسين أولي منك بالمنصب المقدس الكريم، منصب الخلافة الالهية.



لم يذكر الامام زين العابدين المواهب الست، والفضائل السبع، علي سبيل الحصر. بمعني عدم وجود طاقات وتفضيلات إلاّ تلك التي عددها، وانما ذكر ما كان يحتاج اليه المقام.



ونحن نذكرها مقتصرين عليها الان:





1 ـ العلم



لابد لقائد الدولة الاسلامية من معرفة غنية بما نستطيع تسميته بالعلوم القيادية في الاسلام كالقرآن، والفقه، والسياسة، والمجتمع، وعلم التخطيط، الذي يستوعب العلوم السالفة، ويستوعب المشاكل الراهنة، من أجل أن يفرز المواقف المناسبة، والاساليب الحكيمة.



واما العلوم الاخري التي لا تتصل بالعلوم القيادية، فهي من العلوم الكمالية بالنسبة للقائد، كما ان الاطلاع عليها، أو التوسع فيها، لا يغني ولا يسمن في هذا الصدد اذا كان بمعزل عن معرفة العلوم القيادية.



لقد كانت معرفة الرسول وأهل بيته بالكثير من العلوم، وعلي رأسها العلوم القيادية، معرفة واسعة عميقة، وكان الاصدقاء والاعداء يُقرّون لهم بالتفوق فيها علي غيرهم.



ولقد قال رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) بشأن أئمة أهل البيت(عليهم السلام): ولا تعلموهم فانهماَعلم منكم.



وقال الامام علي(عليه السلام) كما في نهج البلاغة: هم عيش العلم، وموت الجهل يخبركم حلمهم عن علمهم، وظاهرهم عن باطنهم، وصمتهم عن حكم منطقهم... عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية، فان رواة العلم كثير ورعاته قليل.



انه ما سُئل أهل البيت عن شيء فعجزوا عن جوابه، أو صدر الجواب عنهم خاطئاً، في مسألة من المسائل، مهما كانت، ومهما كان المسؤول من أهل البيت، صغيراً أو كبيراً، ومن يراجع الحياة العلمية لابي جعفر الثاني «محمد الجواد(عليه السلام)» ير القدرة العلمية الفذة، التي تفوق فيها علي علماء عصره، وهو آنذاك لم يزل في غضارة الصبا.



ان الذي وصلنا مما صح من علوم أهل البيت(عليهم السلام) في القرآن والفقه والعقائد والسياسة.. الخ علي الرغم من دقته، وسعة حجمه، وتعدد مناحيه ما هو الاّ قليل من كثير. وبقيت هناك علوم، وأشياء كثيرة من علوم مااستطاعوا الافصاح عنها لقصر أهل زمانهم عن إدراكها واستيعابها، فضلاً عن رفض تصديقها من قِبل بعضهم.



يقول الامام علي(عليه السلام): بل اندمجتُ علي مكنون علم لو بحت به لا ضطربتم اضطراب الارشية في الطويّ البعيدة.



وجاءت عن الامام زين العابدين(عليه السلام) في هذا المضمار أبيات من الشعر الجميل، تكشف عن واقع عصره، لا نستغني عن ذكرها:



اني لاكتم من علمي جواهره كي لا يري العلم ذو جهل فيفتتنا



وقد تقدم في هذا أبو حسن الي الحسين واوصي قبله الحسنا



فربَّ جوهر علم لو أبوح بهِ لقيل لي انت ممن يعبد الوثنا



ولاستحل رجال صالحون دمي يرون اقبح ما يأتونه حسنا(137)





مصادرة الحرية العلمية والفكرية:



ولا يخفي ان الحرية العلمية والفكرية قد صودرت من قبل القيادة السياسية في حياة اكثر أهل البيت مما ترك منطقة للفراغ حيل بين أهل البيت وبين ملئها بالحروف الواضحة، فكتبوا حروفها أحياناً كثيرة بالمواقف الرمزية، ومجموعة من الاحاديث غير المكشوفة. فينبغي تفهم تلك المواقف والاحاديث بعقليات واعية مجربة ومبدعة تختلف عن العقليات التي درست الاحاديث، والمواقف العامة، وتفهمتها بروح باهتة، وتفكير سقيم مبني علي الجمود والتقليد والتلقي.



بيد أن أهل البيت(عليهم السلام) علي الرغم من الملابسات الحاكمة، والظروف السياسية الخانقة، في أغلب الاحيان قد فتحوا أبواباً من العلوم، والافكار الاصيلة علي مصاريعها، وعلّموا خلقاً عظيماً، وأناسيَّ كثيرا.



ولقد عكفت اُمة من كبراء العلماء والمحققين قديماً وحديثاً علي معارفهم وعلومهم يتدارسونها ويحللونها، ويستنبطون منها النتائج العامة والخاصة خدمة للاسلام، وتشييداً للبناء الحضاري الشامل.



ولقد قال رجل معروف بالتعصب الاعمي، وهدر دماء أهل البيت، اَلا وهو يزيد واصفاً علم الامام زين العابدين خصوصاً وأهل البيت عموماً: انه من أهل بيت قد زُقّوا العلم زَقّا(138).



وقال رجل آخر لا يقل تعصباً عن الاول، وتعطشاً لدماء أهل البيت(عليهم السلام)، ولكن الظروف السياسية لم تتح له ذلك، ألا وهو عبدالملك بن مروان، قال لزين العابدين(عليه السلام): ولقد أوتيت من الفضل والعلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك، ولا قبلك، إلاّ من مضي من اسلافك.



ولقد قال الشيخ المفيد رضوان الله عليه مُشيداً بعلوم زين العابدين(عليه السلام): وقد روي عنه فقهاء العامة من العلوم ما لا تحصي كثرة، وحُفظ عنه من المواعظ والادعية، وفضائل القرآن، والحلال والحرام، والمغازي والايام ما هو مشهور بين العلماء. ولو قصدنا الي شرح ذلك لطال به الخطاب، وانقضي به الزمان(139).



وليست هذه الكلمات إلاّ غيضا من فيض من الاشادة بعلم الامام زين العابدين سلام الله عليه والابانة عن معارفه.





2 ـ الحلم:



الحلم ما يكون عن مقدرة، أما ما لم يكن عن مقدرة فهو ليس من الحلم في شيء. والحلم سجية يعظمها الناس عامة ويحبونها حباً جمّا، ولا يطبقها علي نفسه إلا الاقلّون. ولقد قيل: انك تجد في كل مائة عشرة من الشجعان، وقد لا تجد في كل مائة حليماً واحداً.



ما زالت سجية الحلم كبيرة في النفوس، مهيبة في القلوب في الجاهلية والاسلام، حتي أراد أن يضفيها علي خلقه من ليس لها بأهل، وما يتعلق منها بشروي نقير لينال محبة واكبار الخاص والعام.



ونظراً لاهمية الحلم وعظمة منزلته اكّد عليه الكتاب العزيز، وركّزتْهُ السنّة المطهَّرة واكابر الفلاسفة والحكماء. يقول الله تبارك وتعالي: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين).



وقال تعالي: (خُذ العفو واؤمر بالعُرف واَعرض عن الجاهلين)(140)، وفي رواية ان جبرئيل صلوات الله عليه نزل علي النبي محمد(صلي الله عليه وآله وسلم) قائلاً له: أتيتك بمكارم الاخلاق في الدنيا والاخرة (خذ العفو وأمر بالعُرف وأعرض عن الجاهلين).



فقال رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم): ما هذا يا جبرائيل؟



فقال: لا أدري حتي أسأل العالم.



ثم عاد وقال:



يا محمد ربّك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك.



وقال الرسول محمد(صلي الله عليه وآله وسلم): من كتم غيظاً ولو شاء أن يمضيه امضاءً ملا الله قلبه أمناً وايماناً.



ولعليّ(عليه السلام) عقود عسجدية عن الحلم والدعوة اليه نقتطف منها:



ان لم تكن حليماً فتحلَّم، فانه قلّ من تشبّه بقوم الاّ أوشك أن يكون منهم.



اذا قدرت علي عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه.



لقد تجلت سجية الحلم بأروع صورها عند النبي وأهل بيته بلا استثناء، فمن النبي الاقدس، الي المهدي المؤمل، مروراً بالامام موسي بن جعفر، الذي غلب نعته بالحلم والصفح وكظم الغيظ علي اسمه، فاصبح كظمه وحلمه مضرب الامثال. فترة مديدة فيها من أنماط الحلم النزيه، وألوان الصفح الجميل ما يهش له العالَم. ويقف ذلك الحلم ذروة عليا «ينحدر عنها السيل ولا يرقي اليها الطير».



ومن كلمات أهل البيت في الحلم ما جاء عن علي بن الحسين(عليه السلام): ما من جرعة احب الي الله من جرعتين: جرعة غيظ ردها مؤمن بحلمه، أو جرعة مصيبة ردها مؤمن بصبره.



وقال: انّ علامات المؤمن خمس، وعدَّ منهن الحلم عند الغضب. وسبّه رجل فسكت عنه. فقال اِياك أعني، فقال: وعنك أغضي.



وكان عنده(عليه السلام) ضيوف فاستعجل خادماً له بشواء كان في التنور، فأقبل به الخادم مسرعاً، فسقط السّفود منه علي رأس بُنيّ كان لعلي بن الحسين تحت الدرج فأصاب رأسه فقتله، فقال للغلام وقد تحيّر واضطرب: انت حرّ فانك لم تعتمده. وأخذ في جهاز ابنه ودفنه.



وجعلت جارية تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الابريق من يدها علي رأسه فشجّه، فرفع رأسه اليها فقالت له: (والكاظمين الغيظ) قال: كظمتُ غيظي، قالت: (والعافين عن الناس) قال لها: عفا الله عنك، قالت: (والله يحب المحسنين) قال: أذهبي فأنت حرة لوجه الله.



وقيل للاسكندر: ان فلاناً وفلاناً ينتقصانك ويثلبانك، فلو عاقبتهما.



فقال: هما بعد العقوبة أعذر في نقصي وثلبي.



إنَّ مقابلة المسيء بالاحسان اسلوب فعال من أساليب العقوبة والردع في سياسة المجتمع وتربيته.



رفع هذا الشعار علي بن أبي طالب(عليه السلام) بقوله: عاتب اخاك بالاحسان إليه، واردد شره بالانعام عليه.



اِنَّ احتياج القيادة السياسية للحلم والصفح أحياناً كاحتياجها للعنف والشدة أحايين اُخر فان الحكمة، تقتضي: أن تتخذ القيادة السياسية القرار المناسب ليناً أو شدة في كل واقعة من وقائع السياسة والحكم.



ويمكننا الاشارة الي بعض الفوائد القيادية والسياسية للحلم:



أولاً: ان القيادة السياسية بحاجة الي كثرة الانصار والمؤيدين والحد من المسبّبات لذلك، قال الامام علي(عليه السلام): «أول عوض الحليم عن حلمه أنَّ الناس أنصاره علي الجاهل».



ثانياً: ان الحلم يدل علي أفضلية الحليم علي المعتدي ولو من بعض الجهات. وما أحوج القيادة السياسية لان يُشار اليها بالافضلية والتقدم.



ثالثاً: ان عدداً من الذين تحلم القيادة السياسية عنهم يشعرون بانهم المدينون لها وانها المتفضلة عليهم وجزاء ذلك أن يكونوا من أعوانها ومحبيها.



ان للحلم ايجابيات وفيرة، بيد أنه اذا لم يُحسن الاخذ به يكون علة لسلبيات واخطاء لاتُحصي، ولذا يصح أن نقول : خُلُقان عظيمان الاغراق فيهما نقص وهوان الحلم والتواضع.



فان الاغراق بالحلم والتواضع يسبب عدم أخذ القرارات السياسية موضع الجد والحديّة، ويسبب كثرة الاعتداء عليها، والاقدام علي هتك حريم عزّتها، ولو كان الحلم محموداً في جميع الحالات لحلم زين العابدين عن قتلة الامام الشهيد الحسين بن علي(عليهما السلام) ولكنه(عليه السلام) كان شَديد التحريض عليهم والكشف عن مظالمهم، وبتحريضه للمختار الثقفي قُتل عمر بن سعد قائد جيش ابن زياد.



ومن حالات الفرز بين موقع الحلم وموقع الشدة والردع يمكننا القول:



عاقبوا الضعيف الذي يتبجّح بالشر، واحلموا عن القوي الذي تخجله الاساءة.





3 ـ السماحة:



السماحة هي البذل في اليسر والعسر عن كرم وسخاء.



وللسماحة دوافع.



فمنها التقرب الي الله تبارك وتعالي وابتغاء رحمته ورضوانه لانه تعالي سخي يحب السخاء والكرم.



ومنها دافع نفسي.



ومنها دوافع الشفقة والرحمة بالمعوزين والمستضعفين الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلاً.



ومنها طلب الذكر العطر بين الناس.



ومنها لشراء الاصوات الانتخابية، والتوصل الي منصب في الدولة الوضعية، او شبه الوضعية.



وقد يجتمع اكثر من دافع إلي السماحة.

پاورقي





(136) مقتل الحسين للخوارزمي / الموفق بن احمد المكي ج2 ص69 من خطابه(عليه السلام) في دمشق.



(137) الالوسي ـ الشيخ العلامة محمود الالوسي البغدادي، روح المعاني 6 / 190، والشبراوي، الاتحاف بحب الاشراف 50.



(138) الموفق المكي الخوارزمي، مقتل الحسين 2 / 69.



(139) المفيد، محمد بن محمد النعمان، الارشاد 260 ـ 261. بيروت، مؤسسة الاعلمي، 1399هـ ـ 1979م.



(140) الاعراف / 199.