بازگشت

من روائع التراث






1 ـ ان مما يحز في قلب كل المخلصين ان الامة الاسلامية الي هذا اليوم، لم تؤدّ مسؤوليتها العظمي تجاه الروائع الخوالد من تراثها العظيم. علما بان الامة لا تحقق نهضتها وتطورها في الحاضر والمستقبل حتي تستلهم الايات المشرقة من الماضي وتعتمدها في عملية البناء الحضاري.



ولكن الامل وطيد ان ينهض حملة الوعي والبصيرة لهذه المسؤولية التاريخية والواجب المقدس الخطير.



2 ـ من الرسائل التي وصلتنا من العصر الاموي ثلاث رسائل سياسية لعلي بن الحسين زين العابدين هي من اجود واسمي واتقن الرسائل السياسية في ذلك العصر.



والرسائل هي :



أ ـ رسالة الحقوق.



ب ـ رسالة الي احد كبار العلماء.



ج ـ رسالته الي اصحابه.



واذا كانت الرسالة الاولي منها قد توشحت ببعض العناية والانتشار، فان الرسالتين التاليتين لم تزالا في اضابير الغفلة والنسيان.



ولا يسعنا الوقت هنا لاستعراض رسائل سياسية من العصر الاموي لنقارن بينهما وبين رسائل الامام زين العابدين(عليه السلام) فنحيل ذلك الي مراجعة القارئ الكريم في مختلف الكتب المعنيّة، بما في ذلك رسائل المعاصرين لزين العابدين(عليه السلام) من القادة السياسيين المجوّدين والبارعين في البيان امثال عبدالملك بن مروان والحجاج بن يوسف الثقفي وعبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير وقطري بن الفجاءة وغيرهم.



ونعتقد ان القارئ الكريم اذا ما قارن بين الرسائل بدقة وامعان وموضوعية فسوف يري الرسائل السياسية لزين العابدين(عليه السلام) بينها كالجبل الاشمّ بين التلال.



3 ـ والرسائل السياسية لزين العابدين(عليه السلام)، تعبير اصيل عن نشاط فعّال ناهض من الانشطة السياسية الواعية الكثيرة، التي قام بها توعية للاجيال، وخدمة للاسلام، واداءً للمسؤولية.



4 ـ لقد رام علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) ايضاح رأيه من قضية الحكم والسلطة آنذاك. كما اراد تفجير الروح الملحمية والتضحوية لدي طلائع الامة، ورجالاتها الافذاذ، وعدم الذوبان في بوتقة الحكم القائم.



وانّه لصراع مرير دائم امام حملات التضليل الفكري، والغبش السياسي، وامواج الفتن والبدع.



يقول سلام الله عليه: ان الامور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مضلاّت الفتن، وحوادث البدع، وسنن الجور، وبوائق الزمان، وهيبة السلطان، ووسوسة الشيطان، لتذر القلوب عن تنبيهها، وتذهلها عن موجود الهدي ومعرفة اهل الحق الاّ قليلاً ممن عصم الله(123).



ولا تتم القدرة علي الصراع المرير الدائم بلا رسوخ العقيدة والايمان، وتربية النفس علي المواجهة والتحدي، وكبح جماح الاهواء والنزوات امام المغريات المتعددة. وهذا لا يتيسر لكل صادر و وارد بل هو بمقدور من عصمه الله، ونهج سبيل الرشد، وسلك طريق القصد، ممن استعان علي ذلك بالزهد، فكرّر الفكر، واتّعظ بالعبر وازدجر فزهد في عاجل بهجة الدنيا، وتجافي عن لذاتها، و رغب في دائم نعيم الاخرة وسعي لها سعيها، و راقب الموت وشنأ الحياة مع القوم الظالمين(124).



5 ـ لم تكن هذه الرسائل السياسية لزين العابدين(عليه السلام) مقصورة النفع، او ان سببها مختصاً بالعصر الاموي او في سبيل انتهاج سياسة وفق مقتضيات ومتطلبات مرحلة سياسية معينة، بل انها تربية روحية واخلاقية، وتعاليم سياسية، تصلح لكل مرحلة، من المراحل التاريخية. ما دام هناك صراع بين الحق والباطل، وما دامت هناك حاجة الي القائد البديل.



6 ـ انّ طول النفس في الرسائل الثلاث للامام زين العابدين(عليه السلام) هو من الفوارق بين رسائله السياسية، وبين الغالبية العظمي من الرسائل السياسية في عصره. امّا رسالة الحقوق فهي من اطول الرسائل السياسية آنذاك.



واما الرسالتان الاتيتان فان طولهما طول نسبي، علي الرغم من ان الرسالتين الواصلتين لنا قد وقع فيهما حذف بحجم ما وان كان غير مخلّ بموضوع كل منهما.



فمن دلائل الحذف خلو احدي الرسالتين من عبارة لازمة عند اهل البيت، وفي صدر الاسلام والعصر الاموي من قبيل الابتداء بـ (بسم الله الرحمن الرحيم).



ومن دلائل الحذف خلو الرسالتين من تعبير مشهور في صدر الاسلام والدولة الاموية وهو (امّا بعد). وقد مرّ علينا هذا التعبير كما في رسالة زياد ابن ابيه، ورسالة شريح بن هانئ وكان التعبير هذا يذكر في بدايات كل رسالة.



نعم، ان رسالة الامام زين العابدين(عليه السلام) الي عالم ديني كبير كما ستأتي تتضمّن تعبير (امّا بعد) ولكنه قد ورد في اواخر الرسالة وبعد ذكر عدة مقاصد. وهو شيء استدعاه سياق الكلام يغاير ما هو متعارف ذكره في اوائل الرسائل.



ومن دلائل الحذف عدم ذكر المرسل والمرسل اليه في بدايات الرسالتين معاً.



7 ـ قد عرفنا أن الرسالتين لم تذكرا المرسل والمرسل اليه بما في ذلك الرسالة الي احد كبار العلماء كما عنونّاها، والتي تعنون في المصادر بـ ( رسالته الي محمد بن مسلمة الزهري ). فبناءً علي عدم ذكر المرسل والمرسل اليه لا نستطيع القول علي سبيل الجزم انه ارسلها الي الزهري ام لغيره من العلماء خصوصاً مع وجود عبارة فيها يتسرب من كوّتها الاحتمال الي عدم كونها مرسلة اليه، والعبارة هي: انك لست في دار مقام انت في دار قد آذنت برحيل، فما بقاء المرء بعد قرنائه.



وعبارة ثانية: اغفلت ذكر من مضي من اسنانك واقرانك، وبقيت بعدهم كقرن اعضب.



وعبارة ثالثة: فاذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا المبلغ مع كبر سنّك ورسوخ علمك وحضور اجلك.



وهذه العبارات الثلاث تدل علي ان المرسل اليه شيخ كبير السن، وهذا لا يتوافق مع سنّ محمد الزهري وان كان من اصحاب زين العابدين(عليه السلام) لان ولادة الزهري سنة (58 هجرية)(125) بينما رسالة زين العابدين(عليه السلام) علي ابعد تقدير كانت سنة (94 هجرية) عام وفاة زين العابدين(عليه السلام)، وقيل عام (95 هـ) فيكون سن الزهري علي ابعد تقدير لا يتجاوز ثلاثين عاماً الاّ سنيّات. واين هذا من كون المرسل اليه شيخا كبير السن.



وعلي هذا الاساس تكون الرسالة موجّهة ـ علي ما يظهر ـ الي عالم ديني آخر. وعبارة (ورسوخ علمك) تدلّ علي ان الشخص المرسل اليه من كبار العلماء.



ونحن نحتمل ان يكون هذا العالم الديني الاخر قبيصة بن ذؤيب الخزاعي وهو من الفقهاء الرسميين للدولة الاموية وكانت له مكانة كبيرة في الدولة وكان قد ولد في عهد رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) وبالمقارنة بين شخصيتي قبيصة بن ذؤيب والزهري ومعرفة السلوك السياسي لكل منهما يظهر ان قبيصة ابعد اثراً في العمق الاستراتيجي للدولة واكثر تبريراً لسيناريو النظام.



8 ـ لقد كان لقاء الجمهور لقاء سياسياً من الصعوبة بمكان ولا تكمن الصعوبة في مواجهة قائد اللقاء فحسب بل حتي في مواجهة الجمهور نفسه. لا سيما اذا كانت النظرة القبلية اليه كأية نظرة الي قوي المعارضة.



فجاءت طريقة الرسائل السياسية اشبه باللقاء غير المرئي بل هو لقاء غير مرئي بالفعل. تستلهم القاعدة الشعبية فيه من قائدها الاعلي علي زين العابدين(عليه السلام) التعليمات السياسية والاوامر والتوجيهات. ومنها رسالة مفصّلة لزين العابدين(عليه السلام) ـ ستأتي ـ قد بعثها الي قاعدته الشعبية يحذرهم فيها من اتباع الظلمة، والانضواء تحت راية الحكم القائم، ويوجههم الي اتباع القيادة البديلة المتمثلة به آنذاك.

پاورقي





(123) من رسالته الي اصحابه كما سيأتي.



(124) من رسالته الي اصحابه كما سيأتي ايضاً.



(125) ابن كثير الدمشقي، البداية والنهاية 9 / 340.