بازگشت

الاستراتيجية التربوية


شدد الاسلام، علي المربين... في تهذيب طبائعهم، وتطهير توجهاتهم الروحية، والسياسية، والانسانية... وفي تربية انفسهم، تربية مستقاة من روح السماء، وتعاليمها، في سبيل ان يكونوا امثلة عليا... يقتدي بها الجيل، ويعتمدها في العمل والبناء، والجهاد في معركة الحياة.ان رسل الله خير من يقتدي بهم، ويقتص اثرهم (اولئك الذين هدي الله فبهداهم اقتده...)(36) (لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاخر وذكر الله كثيرا)(37).وكذلك ائمة أهل البيت(عليهم السلام) فانهم قمة شماء في التوجيه والتربية الاسلامية... فالالتزام بتربيتهم، والاخذ باوامرهم وتعاليمهم، هو الذي ينجي من التردي والسقوط، ويرتفع بالانسانية الي حيث الافق المضيء المشرق.يقول الرسول محمّد(صلي الله عليه وآله وسلم) كما في الحديث المشهور: «مثل اهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوي».شمولية الخلاص:وهنا يفرض السؤال نفسه: هل ان اهل البيت(عليهم السلام) انقاذ للبشرية، وسفينة للنجاة، في الشؤون الروحية والعرفانية والاخلاقية وهكذا كل ما يصون الناس من الكفر والشرك.... فحسب، أم انهم نجاة لما هو اشمل من ذلك؟ولسنا نعتقد بصحة التسرع بالجواب، إلاّ من بعد ان ندرك ونستلهم، مفهوم الغرق والهوي.ان الانسان إذا ما تجافي والتربية الروحية فانه يغرق ويهوي وإذا ما ابتعد عن المفاهيم الاخلاقية فانه يغرق ويهوي.وإذ ما كفر واشرك فانه يغرق ويهوي.ولكن هل هذه هي المفردات والمصاديق الوحيدة للغرق والهوي.كلا، والف كلا.فإن مفردات ومصاديق كثيرة، تنصب في السياق نفسه، ولا نرغب ان نقوم بعمليات احصائية لها، لانها خارج موضوعنا، ولكن نريد ان نركز هنا، علي ما يتساوق وبحثنا الحالي.اليست السياسة، بما هي سياسة، عالماً من الخير والشر، والهدي والضلال، والعدالة والظلم، والحق والباطل. أو بعبارة اخري، نريد ان نقول:ان السياسة بحر عميق ما ينجو في عبوره اناس، إلاّ والذين يغرقون اكثر واكثر.إذن، ومن منطلقات رسالية وانسانية، لابدّ من التسارع الي عمليات الانقاذ.وفي هذه الحالة، يأتي دور السفينة أي دور اهل البيت(عليهم السلام).فهم، اهل الخير، والحاثون عليه.وارباب الهدي، والداعون إليه.ورمز العدالة، والمرغبون فيها.ومستقر الحق، والناصحون به.يا اخي الكريم:إذا رأيت بحراً عميقا... متلاطم الامواج فاعلم انه بحر السياسة، وإذا رأيت سفينه تمخر التيار، بعد التيار فاعلم ان ربانها من أهل البيت.



المثل الاعلي للقائد الرسالي:ولم ينضب بحر من البحور، إلاّ وطفح الاخر، ولم يمت ربان، في قيادة السفينة، إلاّ واحتل موقعه ربان آخر. حتي جاء الدور للامام زين العابدين(عليه السلام) فقاد السفينة خير قيادة، وانقذ من الهلاك جيلاً بعد جيل.لقد كان هذا الامام الهمام، القبس الهادي، والضوء المنير، والنبراس المشرق... لكل من اراد التربية الصادقة، والطريقة المثلي، والمنهج القويم.ولقد كان المجتمع، يلحظ فيه هذه الايات الباهرات لذا ان الكثير من ابنائه، يسارعون الي الاخذ بتربيته، معرفة بهديه، وصدق توجهاته، وانهم ما وجدوا له زلة، ولا شاهدوا منه عثرة، ولا رأوا فاصلاً بين اقواله وافعاله.انه المثل الاعلي للقائد الرسالي الذي لا يأمر بشيء إلاّ وقد امتثله، ولا يحث علي جميل إلاّ وقد عمله. (لمثل هذا فليعمل العاملون).فروع النظريات التربوية:ان لكل نظرية تربوية هدفاً نهائياًUitimate ain تصبو إليه، وترمي لتحقيقه. سواء كان الهدف النهائي علي طريق الصواب أم كان علي طريق الخطأ.ان النظريات التربوية الحديثة، علي الرغم من وجود ثغرات تتخللها، وتكتنف جوانبها.. إلاّ انها تعتبر متطورة جداً، وذات تفوق ملحوظ ـ بالقياس الي النظريات التربوية القديمة، إنْ من حيث المعاني والمضامين، وإنْ من حيث المناهج.نعم تستثني من هذا التعميم، نظرية القرآن الكريم، والرسول محمّد(صلي الله عليه وآله وسلم)، وائمة الهدي.ولسنا الان بصدد، دراسة النظريات التربوية القديمة، ماعدا خطوطاً عريضة للنظرية التربوية ـ القديمة الجديدة ـ للامام زين العابدين(عليه السلام).كما لا نريد ان نتناول من النظريات إلاّ اشارات عابرة من الاهداف التربوية فيها. مقارنة بالاهداف التربوية لدي نظرية الامام زين العابدين.هناك ثلاثة فروع للنظريات التربوية، لكل منها انصاره، في الوقت الحاضر، كما يقول الفيلسوف المعاصر Bertrand Russell (برتراند راسل).الاولي تبحث في الهدف الوحيد للتربية، وهو تجهيز الفرص للنمو، وازالة نفوذ التخلف.والثانية: تتمسك في ان هدف التربية: هو منح ثقافة للفرد، وتطوير امكانياته لاقصي حد.والثالثة: تأخذ في ان التربية يجب ان تعتبر نوعا ما علاقاتها بالمجتمع، اكثر من علاقاتها بالفرد(38).بين نظريّة الامام والنظريّات التربوية:ولم يكن الهدف، من النظرية التربوية، لدي الامام زين العابدين(عليه السلام) يلتقي وواحداً من هذه الفروع فحسب. بل يمكن القول: انه يلتقيها جميعاً. علماً بان النظرية الثالثة لا تتنافي والنظرية الثانية وانما تعني: ان نولي، العلاقات الاجتماعية، العناية والرعاية بصورة اكثر من ثقافة الافراد، والعناية بهم.وتلتقي نظرية الامام زين العابدين بالنظرية الثانية من حيث شدة الاهتمام بالفرد، وعدم اهماله بذريعة العناية والاهتمام بالمجتمع، أو اعطائه مجرد قسط من الرعاية فحسب.بيد ان الاختلاف ما بين الافراد اختلاف كثير... فمنهم من له الاستعداد الفكري أو النفسي أو الارادي علي السموّ والتحليق، ومنهم من ليس كذلك ومنهم من يرجي منه النفع العام والفائدة الكبيرة للمجتمع، والقدرة الكبري علي التوجيه والتربية، ومنهم دون ذلك بمرحلة أو مراحل.وعلي هذا الاساس فان بعض الافراد يحظون برعاية اكثر من غيرهم، عند الامام زين العابدين(عليه السلام)، كما سنشير الي عدد منهم، وإن كان قد فتح قلبه للجميع، وادلي برعايته لمختلف الافراد.الكيفية الاليَّة:اما الكيفية الالية للالتقاء مع النظريات الثلاث فنحن سوف نوضحها بايجاز.أ ـ اما الالتقاء مع النظرية الاولي، التي تركز علي تجهيز الفرص للنمو، وازالة نفوذ التخلف. فهي واضحة من خلال التعاليم والمفاهيم التالية:1 ـ قال(عليه السلام): مجالس الصالحين داعية للصلاح، وآداب العلماء زيادة في العقل(39).2 ـ الفكرة مرآة تري المؤمن حسناته وسيئاته(40).3 ـ فأما حقوق رعيتك بالسلطان، فان تعلم انك انما استرعيتهم، بفضل قوتك عليهم فانه انما احلّهم محل الرعية لك ضعفهم وذلهم، فما اولي من كفاكه ضعفه وذلّه، حتي صيره لك رعية، وصيّر حكمك عليه نافذا، لا يمتنع منك بعزة ولا قوة، ولا يستنصر فيما تعاظمه منك إلاّ بالله.. بالرحمة، والحياطة، والاناة(41).ب ـ واما الالتقاء مع النظرية الثانية: التي تنصب علي ثقافة الفرد وتطوير امكانياته لا قصي حد، فنود ان نشير قبل ذلك الي امر مهم جداً وهو أن هذه النظرية صحيحة في نفسها ولكن شريطة ان لا تخلَّ بحقوق المجتمع، وتضر بالصالح العام.وباستطاعة ـ القارئ الكريم ـ تلمُّسُ الالتقاءِ ما بين النظريتين نظرية الامام زين العابدين والنظرية الثانية، عن طريق الامرين التاليين:اولاً: الجهود الكثيفة التي كان يبذلها الامام زين العابدين في سبيل تربية الكثير من الافراد، والعناية الخاصة التي كان يوليها لبعضهم. ومن بين هؤلاء الكثيرين، نضرب بعض الامثلة:الامام محمد الباقر(عليه السلام):الشهيد السعيد زيد بن علي زين العابدين(عليهما السلام).العالم الكبير مفسِّر القرآن الكريم الشهيد سعيد بن جبير(رحمه الله).خادم الامام زين العابدين العالم الجليل أبو خالد الكابلي(رحمه الله).الفقيه الكبير، الامر بالمعروف والناهي عن المنكر. سعيد بن المسيب رضوان الله عليه.محمد الزهري، علي الرغم من ان هذا الرجل، كان من المنتسبين الكبار لجناح السلطة التي كان الامام زين العابدين مقارعاً لسياستها ومقاصدها. إلاّ انه قد حظي بتعاليم الامام وارشاداته، وتربيته الخاصة. وقد آتت هذه التربية ثمارها، فكم لمحمد الزهري من موقف ايجابي داخل اروقة النظام، وإن كان وجوده ـ للاسف ـ يستفاد منه لتمرير مخططات الحكام.ثانياً: يتلخص في مفاهيم تربوية، عند الامام زين العابدين وافرة جداً، ولا يسعنا الان إلاّ ان نذكر منها شيئاً يسيراً جداً. فمن ذلك قوله صلوات الله عليه:واما حق الصغير فرحمته وتثقيفه وتعليمه والعفو عنه والستر عليه والرفق به والمعونة له والستر علي جرائر حداثته فانه سبب التوبة والمداراة له وترك مماحكته(42) فان ذلك ادني لرشده(43).وقيل له(عليه السلام): من اعظم الناس خطراً؟ فقال: من لم ير الدنيا خطراً لنفسه(44).واما حق السمع فتنزيهه عن ان تجعله طريقاً الي قلبك، الا لفوهة كريمة، تحدث في قلبك خيرا، وتكسبُ خلقاً كريماً فانه باب الكلام الي القلب يؤدي اليه ضروب المعاني علي ما فيها من خير وشر(45).من كتم علماً احدا، أو اخذ عليه صفدا، فلا نفعه ابدا(46).متفقه في الدين اشد علي الشيطان من عبادة الف عابد.ثالثاً: واما اللقاء بين النظرية الثالثة التي تؤكد علي الابعاد الاجتماعية في التربية، وبين نظرية الامام زين العابدين(عليه السلام) فانه لقاء واسع رحب، كثير التشابك والتلاحم. بيد انه من المستطاع ان يجمل ببعض المؤشرات التربوية كمايلي:واما حق اهل ملتك عامة فاضمار السلامة، ونشر جناح الرحمة، والرفق بمسيئهم، وتألفهم، واستصلاحهم، وشكر محسنهم الي نفسه واليك فان احسانه الي نفسه، احسانه اليك، إذا كفّ عنك اذاه، وكفاك مؤونته، وحبس عنك نفسه. فعمَّهم جميعاً بدعوتك، وانصرهم جميعاً بنصرتك، وانزلهم(47) جميعا منك منازلهم.كبيرهم بمنزلة الوالد وصغيرهم بمنزلة الولد واوسطهم بمنزلة الاخ.فمن اتاك تعمدته بلطف ورحمة، وصل اخاك بما يجب للاخ علي اخيه(48).والنص المتقدم قبل قليل «فأما حقوق رعيتك بالسلطان» مما يجري ضمن سياقات الابعاد الاجتماعية في التربية.بل يمكن القول: ان اكثر رسالة الحقوق ـ وهي رسالة طويلة جداً ـ هو مما يجري في هذه المسارات التربوية المحددة وذلك لانها تؤكد علي الابعاد الاجتماعية في التربية(49).وعن الامام محمد الباقر(عليه السلام) قال: كان زين العابدين(عليه السلام) إذا نظر الي الشباب الذين يطلبون العلم ادناهم إليه وقال: مرحبا بكم انتم ودائع العلم، ويوشك إذ انتم صغار قوم ان تكونوا كبار آخرين.سادة الناس في الدنيا الاسخياء وسادة الناس في الاخرة الاتقياء.لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج، وخوض اللجج.



ان الله تبارك وتعالي اوحي الي دانيال: ان امقت عبيدي اليَّ الجاهل المستخفُّ باهل العلم، التارك للاقتداء بهم، وان احب عبيدي الي التقي الطالب للثواب الجزيل، اللازم للعلماء، التابع للحكماء.كلكم سيصير حديثا فمن استطاع ان يكون حديثاً حسناً فليفعل(50).



من ركائز التربية الفاضلة:أ ـ مما لا ريب فيه ان الانسان إذا كان صاحب ايمان بالقيم التربوية، والمسارات الاخلاقية التي يدعو لها الاخرين فعليه التطبيق الشخصي، وان يعمل بكل ما يدعو له وذلك لان الانسان فطريّا ـ وكما هو المعتاد ـ يأبي الانصياع، أو الاستقاء من المناهل العذاب التي يستقي منها اربابها. كما ان الانسان ان كان مؤمنا بما يدعو له الاخرين فلماذا لا يعمل بما يدعو له، وإن لم يكن مؤمنا بذلك فعلام الدعوة له.يقول الله تعالي ناقداً بعض المؤمنين، وعائباً عليهم الفصل ما بين الاقوال والاعمال: (يا ايها الذين امنوا لِمَ تقولون مالا تفعلون * كبر مقتاً عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون)(51).ومن هذا المنطلق نري الامام علياً زين العابدين سلام الله عليه قد قام بالتطبيق الشخصي لكل ما ينصح به سواه، ويدعو له الاخرين، من قيم اخلاقية، ومثل تربوية، وواجبات، ومستحبات، وآداب، وتقوي. لقد كان سلام الله عليه مجتهداً في دين الله غاية الاجتهاد، ذائباً فيما يؤمن به، متعباً نفسه، مرهقاً بدنه، مسهراً مقلتيه، وفي شخصه الكريم، تتجسد النظرية التربوية التي ارادها خطاً في مسار الحياة، حتي كأنه نسخة من الاسلام، أو انه إسلام يمشي علي الارض.وليس شيئاً ادل علي ذلك، من حياته الشخصية، والعامة، وما كثر نقله عنه من فضائل ومكارم.ب ـ الابتهال الي الله تعالي ان يربي نفسه ظاهراً وباطناً، في مستسرالسر، وظاهر العلانية، ويمده بالتوفيق في ذلك. وابتهالاته المقدسة في هذا المجال لا تكاد تحد بحد. فمن ذلك قوله سلام الله عليه: وهب لي التطهير من دنس العصيان، واذهب عني درن الخطايا، وسربلني بسربال عافيتك، وردِّني رداءَ معافاتك، وجللني سوابغ نعمائك، وظاهر لديَّ فضلك وطوْلَك، وايدني بتوفيقك وتسديدك، واعني علي صالح النية، ومرضيِّ القول، ومستحسن العمل.ومن ذلك قوله: اللهم اقضِ لي في الاربعاء اربعا:اجعل قوتي في طاعتك، ونشاطي في عبادتك، ورغبتي في ثوابك، وزهدي فيما يوجب لي اليم عقابك.ج ـ تأنيب النفس ومعاقبتها، ومحاسبتها علي الصغيرة والكبيرة، محاسبة شديدة، والوقوف منها وقوفاً حازماً، لا تسامح فيه، ولا غض نظر، والالحاح عليها في الابتعاد عن الخطايا والدنايا، وتنبيهها من الغفلات، وايقاظها من السبات. يقول سلام الله عليه: وحتي متي اصف محن الدنيا، ومقام الصديقين، وانتحل عزماً من ارادة مقيم بمدرجة الخطايا، اشتكي ذل ملكة الدنيا، وسوء احكامها علي، فقد رأيت وسمعت، لو كنتُ اسمع في اداة فهم، أو انظر بنور يقظة:وكلا الاقي نكبة وفجيعةوكأس مرارات ذعافاً اذوقهاوحتي متي اتعلل بالاماني، واسكن الي الغرور، واعبد نفسي للدنيا علي غضاضة سوء الاعتداد من ملكاتها، وانا اعرض لنكبات الدهر عليَّ اتربّص اشتمال البقاء، وقوارع الموت تختلف حكمي في نفسي، ويعتدل حكم الدنيا:وهن المنايا ايواد سلكته عليها طريقي أو عليَّ طريقها(52)ويقول أيضاً في هذا الصدد:يا نفس حتام الي الدنيا سكونك، والي عمارتها ركونك؟ اما اعتبرت بما مضي من اسلافك، ومن وارته الارض من أُلاّفك، ومن فجعت به من اخوانك ونقل الي الثري من اقرانك؟... فحتّام الي الدنيا اقبالك، وبشهواتها اشتغالك، وقد وخطك القتير، واتاك النذير، وانت عما يراد بك ساه، وبلذات يومك وغدك لاه؟ وقد رأيت انقلاب اهل الشهوات، وعاينت ما حلّ بهم من المصيبات(53).اياك اعني واسمعي يا جارة:ليس من شك ان النفس الطهور الزاكية للامام زين العابدين صلوات الله عليه لم تكن راكنة الي الدنيا، ولا مائلة لزخارفها، ولا جانحة لقدر من بروق مطامعها.. ولكنه إذ يعاتب النفس انما لسجية من سجايا الروح العذبة التي ينطوي عليها اهل البيت عليهم الصلاة والسلام.ولا احسب إلاّ انه(عليه السلام) اراد ان يركز في قلوبنا عذل النفس الامارة بالسوء وتوبيخها ومحاسبتها، باعتبار ذلك اساساً من اسس التربية المثلي. «وليس منا من لم يحاسب نفسه...».واننا إذ يلازمنا العُجب والغرور بانفسنا، وإذ نزكي انفسنا، يربينا الامام زين العابدين(عليه السلام) علي كبح جماح الغرور، والاقلاع عن التزكية المقيتة. ومثله بالتربية جدير، وبالتلطف في التوجيه حري مبين.نعم ان عذل النفس، والتشديد عليها ـ بنفسه ـ شيء جميل، وإن كان صاحب تلك النفس طاهراً، امينا، زكيا، خالصاً، رضيا. أو بعبارة اخري، وان كان صاحب النفس مثل وليِّ الاولياء، وصفيِّ الاصفياء، ونور المتقين، ورمز السداد والاستقامه، اعني علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب صلوات الله عليهم اجمعين.ان الكثير الكثير من الكم الهائل، والحشد العظيم، والكلمات الحسان، التي اطلقها النبي محمد(صلي الله عليه وآله وسلم)، واهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) ينبغي ان تفهم وتستلهم، وتدرك اسرارها، وفق المنطلقات البعيده لـ «اياك اعني واسمعي يا جارة». بوصف ذلك اسلوباً بارعاً من الاساليب التربوية الرائدة، طبعاً لا اعني انها الاسلوب الوحيد، وانما اعني انه من الاساليب الرائعة والمتميزة للاستراتيجية التربوية عند الرسول محمد واهل بيته الميامين سلام الله عليهم جميعا.د ـ لفت الناس الي التربية الذاتية، من خلال المربي الذي يدخل في تركيبها، ويوجهها من الداخل. ففي الخبر الشريف: من لم يجعل الله له واعظاً من نفسه فان مواعظ الناس لا تغني عنه.ان التربية الذاتية تعتبر بحق حجر الزاوية في بناء الصرح التكاملي للانسان.يقول الامام زين العابدين(عليه السلام): الخير كله صيانة الانسان نفسه(54).ويقول(عليه السلام) أيضاً: يا ابن آدم انك لا تزال بخير، ما دام لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همك، وما كان الخوف لك شعارا، والحزن دثارا(55).وهذه مقتطفات يانعة، يسيرة العدد، كثيرة المنفعة، مما قاله الامام زين العابدين(عليه السلام) في التربية الذاتية:عجبت لمن يحتمي من الطعام لمضرته، كيف لا يحتمي من الذنب لمضرته.انما التوبة العمل، والرجوع عن الامر، وليست التوبة بالكلام.ثلاث منجيات للمرء: كف لسانه عن الناس واعتيابهم، واشغاله نفسه بما ينفعه لاخرته ودنياه، وطول البكاء علي خطيئته.ان افضل الاجتهاد عفة البطن والفرج.اتقوا الكذب الصغير منه والكبير، في كل جد وهزل فان الرجل إذا كذب في الصغير، اجترأ علي الكبير. اما علمتم ان رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم) قال: لا يزال العبد يصدق حتي يكتبه اللهُ عزّوجلّ صادقا، ولا يزال العبد يكذب حتي يكتبه الله كاذبا.ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة افضل من حسن الخلق.ما من خطوة احب الي الله من خطوتين: خطوة يشد بها صفاً في سبيل الله، وخطوة الي ذي رحم قاطعة.وما من جرعة احب الي الله من جرعتين: جرعة غيظ ردها مؤمن بحلمه، أو جرعة مصيبة ردها مؤمن بصبره.وما من قطرة احب الي الله من قطرتين: قطرة في سبيل الله، أو قطرة دمعة في سواد الليل، لا يريد عبد إلاّ الله عزّوجلّ.ثلاث من كنّ فيه، كان في كنف الله، واظله الله يوم القيامة في ظل عرشه، وآمنه فزع اليوم الاكبر: من اعطي الناس من نفسه ما هو سائلهم لنفسه، ورجل لم يقدّم يداً ولا رجلاً، حتي يعلم انه في طاعة الله قدّمها، أو في معصية الله، ورجل لم يعب اخاه بعيب حتي يترك ذلك العيب من نفسه.لا حسب لقرشي ولا عربي إلاّ بالتواضع، ولا كرم إلاّ بالتقوي، ولا عمل إلاّ بالنيّة، ولا عبادة إلاّ بالتفقه. ألا وإن ابغض الناس الي الله عزّوجلّ من يقتدي بسنة امام ولا يقتدي باعماله.هـ ـ ابعاد الناس عن اصدقاء الشر، وخلطاء السوء لمضرتهم البالغة، وخشية من تأثيراتهم السيئة لئلا يقتبسوا منهم الخصائل الدنيئة، والشمائل المقيتة فان الانسان بنفسه ـ عادةً ـ له قابلية التأثر والتلقي، وإن كان هذا يختلف بدرجته صعوداً وهبوطاً من شخص الي آخر.وفي الجانب المقابل ركّزت النظرية التربوية للاسلام علي اتخاذ اصدقاء الخير والصلاح، واصفياء الفضيلة والشمم في بيانات كثيرة، ليس هنا موضع تفصيلها. ان الخير والشر يغرسان كما تغرس النبتة، واقدر الناس علي هذا الغرس هم الاصدقاء.يقول الامام زين العابدين صلوات الله عليه وهو ينصح ولده الامام محمداً الباقر(عليه السلام) بل المجتمع الانساني أجمع بالابتعاد عن اصناف من الاصدقاء:يا بني انظر خمسة فلا تصاحبهم، ولا تحادثهم، ولا ترافقهم في طريق:فقال: يا ابه من هم؟قال: اياك ومصاحبة الكذاب، فانه بمنزلة السراب يقرب لك البعيد، ويبعد لك القريب.واياك ومصاحبة الفاسق فانه يبيعك باكلة أو اقل منها.فقال: يا أبه وما اقل منها؟قال: يطمع فيها ولا ينالها.واياك ومصاحبة البخيل فانه يخذلك في ماله، احوج ما تكون إليه.واياك ومصاحبة الاحمق فانه يريد ان ينفعك فيضرك.واياك ومصاحبة القاطع لرحمه فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله(56).وقال(عليه السلام) وهو يربي المجتمع الانساني ويوجهه من خلال مخاطبة ولده الامام محمد الباقر عليه الصلاة والسلام:اياك يا بني أن تصاحب الاحمق، أو تخالطه، واهجره ولا تحادثه فان الاحمق هجنة عبن غائباً كان أو حاضرا ان تكلّم فضحه حمقه وان سكت قصر به عيّه، وان عمل افسد، وإن استرعي اضاع، لا علمه من نفسه يغنيه، ولا علم غيره ينفعه، ولا يطيع ناصحه، ولا يستريح مقارنه، تود امه انها ثكلته، وامرأته انها فقدته، وجاره بعد داره، وجليسه الوحدة من مجالسته إن كان اصغر من في المجلس أعني من فوقه، وان كان اكبرهم افسد من دونه.لقد ذكر الامام زين العابدين صلوات الله عليه خمسة من الاصدقاء الذين قد اوصي بتجنبهم، والابتعاد عن ساحتهم. والحقيقة ان الذين يجدر بالانسان السوي مجانبتهم ومهاجرتهم، اكثر من ذلك بكثير، من قبيل: الظالم، وصاحب الازدواجية في الشخصية، والوضيع النفس. ولا ينبغي الارتياب في انهم اكثر من خمسة.بيد ان الامام(عليه السلام)، لم يرد ان يقول: ان هؤلاء هم فحسب الذين يجتنبون، ولا مانع من مجانبة الاصناف الاخري كافة، وانما قد اكّد علي هؤلاء الخمسة فحسب لغرض من الاغراض، ولحكمة ما.وعلي هذا الاساس فان حصر مجانبة الاصدقاء بهؤلاء الخمسة، انما هو حصر اضافي، وليس حصراً حقيقياً، بمعني انه لا مانع ان يكون الاصدقاء غير المرضيين اكثر من هذا العدد، ومثل هذا الحصر الاضافي كثير الوجود في الاحاديث وفي اقوال الحكماء.وفي عقيدتي ان الاصدقاء الذين يجدر الابتعاد عنهم كثير، ولكن الاحمق من هؤلاء هو الاولي بالابتعاد عنه، ومفارقته.ان الفاسق قد يتوب من فسقه، والكاذب قد ينزع عن كذبه، والقاطع لرحمه قد يصلهم بعد القطع، والبخيل قد يخف بخله بنسبة ملحوظة، ولكن الاحمق لا يرجي لتوبة أو نزوع.ان الاحمق، لا توقظه النوائب، ولا تحنكه التجارب.وكفي الاحمق خزيا ان يصفه الامام زين العابدين بعدم القدرة علي نفع الاخرين حتي وإن اراد ذلك. يقول(عليه السلام): فإنه يريد ان ينفعك فيضرك. كما يقول: ان كان اصغر من في المجلس اغناهم من فوقه، وإن كان اكبر افسدهم من دونه.وليس يرجي من الاحمق ان ينفع سواه، أو ان يحفظ لصديق أو عشير أو جماعة شيئاً ما، بل لا يرجي منه ان ينفع نفسه أو ان يحفظها، ولقد اجاد كثيراً الاحنف بن قيس إذ يقول: الاحمق يحفظ من كل شيء إلاّ من نفسه، أي بالامكان حراسته من كل الاضرار والمفاسد الخارجيه وحمايته منها، ولكن من اين يحمي من نفسه وسفاهة رأيه.ومما قد قلناه حول الاحمق هذه الكلمات القصيرة:حكيم يرتجل الامر خير من احمق يطيل الفكر.الاحمق لا يترك عادة سيئة إلاّ التحف اخري.إذا قصر تفكير الاحمق فخافوه علي نفسه، وان طال فخافوه علي انفسكم.يضطرب قلب الحكيم فيفتح له المسالك، ويطمئن قلب الاحمق فيورده المهالك.بمعني انه علي رغم الظروف القاسية والحرجة، التي تنتاب الحكيم في بعض الاحيان، فانه يستطيع ايجاد حلول مناسبة بصورة وبأخري، ولكن الاحمق حتي في ظروف طمأنينته، واستقراره النفسي يتخبط خبط عشواء.ان الاحمق في حالة طمأنينته، كالنعامة البليدة في حالة خوفها.و ـ التركيز علي تعيين مشرف تربوي، ومستشار مقتدر، علي كل فرد، أو شريحة اجتماعية. ولا نقصد بالتعيين ان يُعيّن من قبل جهة عليا رسمية أو غير رسمية، بل لابد ان يوجد مثل هذا المشرف التربوي أو المستشار بأية صورة من الصور سواء عن طريق التعيين الفوقي، أو ان الانسان أو الشريحة بنفسها تتخذ هذا المستشار أو المشرف التربوي، وتسعي للاستفاده والانتفاع من تربيته وتوجيهه. ويقوم هو بدور الارشاد، ورسم خط الاستقامة والسداد.يقول الامام زين العابدين: ذلَّ من ليس له حكيم يرشده. وهذا من مشهور كلامه(عليه السلام).ز ـ توجيه البشرية نحو كتاب الله العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ودعوتهم لتدبر آياته، والتأمل في احكامه، ودقائقه، ومراميه الفكرية والاخلاقية والاجتماعية، وحثهم علي استخراج كنوزه.يقول الامام زين العابدين(عليه السلام): آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزينة فينبغي لك ان تنظر ما فيها.ويقول(عليه السلام)مؤكداً علي مصاحبة القرآن، والاستئناس به، وملازمته كملازمة الظل: لو مات مَن بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد ان يكون القرآن معي.ويقول(عليه السلام) تشويقاً لقراءة القرآن، ومشجعاً علي تلاوته وملازمته:عليك بالقرآن فان الله خلق الجنة بيده لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وجعل ملاطها المسك، وترابها الزعفران، وحصباءها اللؤلؤ وجعل درجاتها علي قدر آيات القرآن فمن قرأ منها قال له: اقرأ وارق. ومن دخل منهم الجنة، لم يكن في الجنة أعلي درجة منه، ما خلا النبيين والصديقين(57).ومما لا ريب فيه ان التوجيه نحو كتاب الله الحكيم توجيه في نفس الوقت للسنة الزكية. قال تعالي: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله ان الله شديد العقاب)(58).وروي العلامة الكليني في الكافي عن الامام زين العابدين(عليه السلام) مؤكداً علي السنة «ان افضل الاعمال ما عمل بالسنة وإن قل».ح ـ التوعية السياسية، ولا نقصد بالتوعية السياسية ان يكون الفرد أو المجتمع علي اطلاع علي ما يجري في الساحة الخاصة أو الساحة الدولية. أي ان يكون ملمّاً بالاخبار فحسب، فان هذه توعية مبتورة جداً، وهي لا تمثل إلاّ جانباً واحدا فقط من التوعية المذكورة.وانما نعني بالتوعية السياسية ان يمتلك الفرد أو المجتمع الرؤية الواضحة والموقف المحدد ازاء الاحداث والاخبار أو بعبارة اوضح واوسع اطاراً ان التوعية السياسية مركب يتألف من الاجزاء التالية:اولاً: الحصيلة الحدثيّة والخبرية.ثانياً: تحليل الحوادث والاخبار.ثالثاً: الموقف المحدد ازاء الاحداث والاخبار.ويشترط في هذا اللون الرفيع من التوعية السياسية ان تكون صحيحة علي المستويات الثلاث صحة الاخبار، وصحة التحليل، وصحة الرؤية والموقف.وهذا لا يعني بالضرورة لكي يكون الانسان أو المجتمع واعيا سياسيا ان يكون محيطاً بجميع الاخبار والتحليلات، وانما يعني ان يكون الحد الادني من الوعي السياسي أي اليقظة في الخط العام للاخبار والتحليلات والرؤي. وهي شيء كيفي في الدرجة الاولي لاكمي أو بتعير ادق وابعد غوراً، وهو ما يقوله الامام زين العابدين سلام الله عليه: يكتفي اللبيب بوحي الحديث، وينبو البيان عن قلب الجاهل.ان الاضرار التي تنجم عن الوعي السياسي بالمعني المشهور، أو المبتور اضرار جسيمة، شديدة الخطر. ومن بين ذلك ان الفرد أو المجتمع قد يصدّق بالاخبار الزائفة والباطلة أو يعتبر التحليل الخاطئ لها تحليلا صائبا ومعتمدا، فهو ينساق معه انسياق التابع للمتبوع. ومن ثم ينحرف أو ينجرف مع التيار الزائغ من حيث يشعر أو من حيث لا يشعر. والله تبارك وتعالي يقول: (قل هل ننبئكم بالاخسرين اعمالا * الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا)(59).ومن المفردات الحيوية الناشطة التي قد رامها الامام زين العابدين(عليه السلام)هذه المقولات والفِكَر.اولاً: ان في الناس من خسر الدنيا والاخرة بترك الدنيا للدنيا، ويري ان لذة الرياسة الباطلة افضل من لذة الاموال، والنعم المباحة المحللة فيترك ذلك اجمع، طلباً للرياسة، حتي إذا قيل له اتق الله اخذته العزة بالاثم(60).ثانياً: وقال(عليه السلام) في تصحيح مسار غير سديد لبعض الشيعة: وددت اني افتديت خصلتين في الشيعة لنا ببعض ساعديّ وهما: النزق، وقلة الكتمان(61).ثالثاً: قال القاسم بن عوف: كنت آتي علي بن الحسين(عليه السلام) مرة، ومحمد بن الحنفية مرة، فلقيني علي بن الحسين(عليهما السلام) فقال لي: اياك ان تأتي اهل العراقفتخبرهم ما استودعناك علما، فانا والله ما فعلنا ذلك، واياك ان تترأس بنا فيضعك الله واياك ان تستأكل بنا فيزيدك الله فقرا.واعلم انك تكون ذنباً في الخير، خير لك من ان تكون رأساً في الشر.واعلم ان من يحدث عنا بحديث سألناه يوماً فان حدَّث صدقا، كتبه الله صديقاً، وإِن حدّث كذبا، كتبه الله كذاباً.واياك ان تشد راحلة ترحلها فانما ها هنا تطلب العلم، حتي يمضي لكم بعد موتي سبع حجج، ثم يبعث الله لكم غلاما من ولد فاطمة(عليها السلام) تنبت الحكمة في صدره، كما يُنبت الطلُّ الزرع(62).رابعاً: العامل بالظلم، والمعين له، والراضي به، شركاء ثلاثة.خامساً: حدثوا الناس بما يعرفونه، ولا تحملوهم ما لا يطيقون فتغروهم بنا(63).سادساً: من رسالة له عليه الصلاة والسلام الي احد كبار العلماء وقد كان منضما في سلك النظام الحاكم: جعلوك قطباً اداروا بك مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك الي بلاياهم، وسلّماً الي ضلالتهم، داعياً الي غيهم، سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك علي العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهّال اليهم، فلم يبلغ اخص وزرائهم، ولا اقوي اعوانهم، إلاّ دون ما بلغت من اصلاح فسادهم، واختلاف الخاصة والعامة اليهم(64).ط: في ظل هذه الشجرة الجميلة التي يوشك ان تقطع والتي تسمي عمر الانسان، علينا ان نعمل ونكافح ونتحرك لما فيه النفع الخاص والعام.انها ايام قلائل، وساعات معدودة. فعلي الانسان ان يقدم الثمار الطيبة من كل ما يسمو ويجدر (يا ايها الانسانُ انك كادحٌ الي ربك كدحاً فملاقيه)(65).وسواء اعمل الانسان خيراً أم لم يعمل فعما قليل سوف لا نري داراً ولا ديّاراً وسوف ينقضي العمر، ويبقي العمل.يقول الامام زين العابدين(عليه السلام): اعلم ان الساعات تذهب عمرك، وانك لا تنال نعمة إلاّ بفراق اخري، فاياك والامل الطويل فكم من مؤمل مالا يبلغه، وجامع ما لا ياكله ومانع ما سوف يتركه، ولعله من باطل جمعه، ومن حق منعه.ويقول أيضاً:تعز فكل للمنية ذائقوكل ابن انثي للحياة مفارقفعمر الفتي للحادثات دريئةتناهبه ساعاته والدقائقكذا نتفاني واحداً بعد واحدوتطرقنا بالحادثات الطوارقالي ان يقول: فالشباب للهرم، والصحة للسقم، والوجود للعدم، وكل حي لا شك مخترم.ولكن العمر علي الرغم من قصر مدته، من المستطاع ان يتخذ سلماً الي خير كثير، ومرقيً الي دار لا تفني ولا تبيد. وما انفع التجارة واروعها في هذه الايام القليلة. أو كما قال الامام زين العابدين(عليه السلام):الدنيا سوق الاخرة، والنفس تاجرة، والليل والنهارُ رأس المال(66).وإذا كانت النفس تاجرة فعليها ان تعد البضائع النفيسة، وتهيئ المستلزمات الكافية، من اجل الربح الوافر، كما ان عليها الالتزام بشؤون التجارة، ومراعاة نظام الاسواق، وعليها ان تعرف جيدا ان النظام دقيق، والرقباء اشدّاء.وفي هذا المنحي من مراعاة النظام، الي تحمل المسؤولية يقول الامام زين العابدين:ليس لك ان تقعد مع من شئت لان الله تعالي يقول: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتي يخوضوا في حديث غيره واما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكري مع القوم الظالمين)(67).وليس لك ان تتكلم بما شئت لان الله تعالي يقول: (ولا تقف ما ليس لك به علم)(68). وقال رسول الله(صلي الله عليه وآله وسلم): رحم الله عبداً قال خيراً فغنم أو صمت فسلم.وليس لك ان تسمع ما شئت لان الله تعالي يقول: (ان السمع والبصر والفؤاد كل اُولئك كان عنه مسؤولاً)(69).ضياع الوقت قديماً وحديثاً:لقد كان النظام الحاكم ابان عهد الامام زين العابدين(عليه السلام)، مشجعاً للفراغ وضياع الوقت، داعياً للهو والعبث من اجل ان يتحرك ذراع السياسة باي اتجاه اراد، ولا يجد من يمنع حركته ووجهته.ولا نعتقد ان قصة مجنون ليلي بالقصة الحقيقية، وما نراها إلاّ اسطورة اختلقتها ووضعتها اخيلة سياسة النظام الحاكم، وانتزعت لها الاشعار المختلفة من هنا وهناك في سبيل اشغال الناس عن الشؤون الرئيسية للدولة، وتمرير مخططات النظام سالمة آمنة.ولو كان الامر يقتصر علي الضياع البريء للوقت، لكان اخف وطأة، واقل شراً. بيد انه قد فتحت ابواب واسعة للموبقات والمنكرات. وكان الاخطل التغلبي شاعر البلاط يدخل علي عبدالملك بن مروان، وإن قطرات الخمر علي لحيته.ولقد استمرت هذه السياسة، بل وما هو شر منها واخطر الي هذا اليوم، فما اكثر مساحات الفراغ وما اوسعها، وما اتفه الوحدة الزمنية قصرت أو طالت في هذا العصر الضائع.ولقد احسن المفكر المعاصر هتشنس Hutchins الرأي حيث يقول:ان لم يهلك انسان هذا العصر نفسه بالقنبلة الذرية والهيدروجينية، فسوف يدمر نفسه بوقت الفراغ الطويل، الذي سيخلفه هذا العصر الذري، وإذا لم توجّه اوقات الفراغ وجهة سوية مخططة انتشرت الجرائم، وسيطر الترويج التجاري المنحرف علي امزجة الناس.ي ـ التأكيد علي ذلك الفاتك الشرس، القاهر المفترس، هادم اللذات وفاجع الانسان بأخيه الانسان، اعني الموت.إذ ان التفكير بالموت والاتعاظ به، والتأمل بمآل اخواننا وآبائنا، الذين اطفأ الموت قبس حياتهم، فذهبوا غير عائدين، كذهاب الامس الذاهب فلا عودة لهم، ولا زيارة ترجي منهم حتي يوم التناد.ان التفكر بالموت واحواله، واتساع حركته، والاتعاظ به عامل من عوامل تهذيب المجتمع، وتشذيب الغرائز، وتصحيح توجهات الانسان، وكبح نفسه الجموح.كما انه عنصر من عناصر مضاعفة النشاط الخير، والسعي الهادف، والاستكثار من صالح العمل، والتزود من وافر المتاع إذ ان لكل انسان فرصة للانجازات النظرية والتطبيقية. فإذا دق الموت ساعة الصفر، واقبل يزحف فلا يقف في وجهه شيء فان الفرصة تأذن بالوداع، وتنقطع المهلة أي انقطاع.وعلي هذا لا يصح ولا يمكن ابعاد ذكر الموت، والاعتبار به، عن مجمل المنهج التربوي في الاسلام. كما ان من الخطأ اعتبار التأكيد علي الموت، داعياً ومحفزاً للكسل، بل ان العكس هو الصحيح.أُكمل الخير في الصباح لئلايهبط الموت في هبوط المساءِترقد الروح والضمير إذا مانسيا الموت مقلق الاحياءِرفرف الموت فاهتززت اباءًأنْ يوافي ولم يتم بنائيفاذا الموت ذكره وخطاهفيه خصب الحياة روح النماءِنعم ان الموت داعية الي الخمول التام، والكسل الكامل عن ممارسة أي لون من الوان الانشطة التي تحرف الانسان عن الدرب اللاحب، والخط القويم، أو علي حد تعبير الامام زين العابدين(عليه السلام):وفي ذكر هول الموت والقبر والبليعن اللهو واللذات للمرء قاصرُوفي المنهج التربوي لاهل البيت(عليهم السلام) حشد من الخطب والكلمات، وغرر الحكم، الكاشفة عن فلسفة الموت، واجوائه، المركزة علي التفكير فيه، المؤكدة علي الانزجار خشية نزوله، والتوبة قبل وروده. ولهم في ذلك وصف دقيق، والتفاتات حيّة وتعابير ملهمة، تخشع لها القلوب، وتضطرب من هولها الارواح.فمن ذلك قول الامام زين العابدين(عليه السلام): انظر الي الامم الماضية، والملوك الفانية، كيف افنتهم الايام ووافاهم الحمام، فانمحت من الدنيا آثارهم وبقيت فيها اخبارهم.واضحوا رميماً في التراب وعُطلتمجالس منهم اقفرت ومعاصروحلوا بدار لا تزاور بينهمواني لسكان القبور تزاورفما إن تري إلاّ جثيً قد ثووا بهامسطحة تسفي عليها الاعاصركم من ذي منعة وسلطان، وجنود واعوان، تمكن من دنياه، ونال فيها ما تمنّاه وبني فيها القصور والدساكر، وجمع الاعلاق والذخائر.فما صرفت كف المنية إذ اتتمبادرة تهوي إليه الذخائرُولا دفعت عنه الحصون التي بنيوحف بها انهارها والدساكرُولا قارعت عنه المنية حيلةولا طمعت في الذبّ عنه العساكرُاتاه من الله مالا يرد، ونزل من قضائه مالا يصد(70).



ويقول(عليه السلام) في هذا المجال أيضاً من كلام له: ويحك يابن آدم الغافل وليس مغفولا عنه، ان اجلك اسرع شيء اليك. قد اقبل نحوك حثيثاً(71)، يطلبك ويوشك أن يدركك، فكأن قد اوفيت اجلك، وقد قبض الملك روحك، وصيرَّك الي قبرك وحيدا فردَّ عليك روحك، واقتحم عليك ملكاك منكر ونكير لمساءلئك وشديد امتحانك. الا وإن اول ما يسألانك عن ربك الذي كنت تعبده، وعن نبيك الذي ارسل اليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن امامك الذي كنت تتولاه، وعن عمرك فيما افنيت، وعن مالك من اين اكتسبته وفيما انفقته، فخذ حذرك، وانظر لنفسك، واعدَّ الجواب.ك ـ التنبيه المتواصل، وياله من تنبيه كأنه صعقة كهربائية فلا يمكن تجاهلها في حال من الاحوال. ينسكب هذا التنبيه في مجاري قلوب الامة وعقولها. ان يا ايتها الامة احذري من احابيل الدنيا وتصاريفها. يعاضد ذلك ابراز خصائصها وطبائعها الذاتية والعرضية، والتعريف بقدرها وختلها، ووعودها السرابية، والدعوة الي الزهد فيها، والابتعاد عن نزواتها.يقول سلام الله عليه: وما عسيت ان اصف من محن الدنيا، وابلغ من كشف الغطاء، عما وكل به دور الفلك من علوم الغيوب، ولست اذكر منها إلاّ قليلا افنته، أو مغيب ضريح تجافت عنه، فاعتبر ايها السامع بهلكات الامم، وزوال النعم، وفظاعة ما تسمع، وتري من سوء آثارها، في الديار الخالية، والرسوم الفانية، والربوع الصموت.وكم عالم افنت فلم تبك شجوهولابدَّ ان تفني سريعاً لحوقُهافانظر بعين قلبك الي مصارع اهل البذخ، وتأمل معاقل الملوك ومصانع الجبارين، وكيف عركتهم الدنيا بكلاكل الفناء، وجاهرتهم بالمنكرات، وسحبت عليهم اذيال البوار، وطحنتهم طحن الرحي للحب، واستودعتهم هوج الرياح تسحب عليهم اذيالها فوق مصارعهم في فلوات الارض.مما هو جدير بالذكر أَن للدنيا ساحتين: ساحة للخير والفضيلة، وساحة للشر والرذيلة. ففي الساحة الاولي ينبغي لاولي الالباب التزود منها، والسعي الجاد فيها، والتسابق الي المزيد من الاعمال الصالحة. وفي الساحة الثانية ينبغي لاولي الالباب التنزه عنها وعدم التلوث فيها والترفع عن صعيدها الشائن.اللهمَّ إلاّ من زاوية دفع الشر بالشر، أو كما قال الامام علي بن ابي طالب(عليه السلام): ردوا الحجر من حيث جاء فان الشرَّ لا يُدفع إلاّ بالشرِّ.بيد ان هذا اللون من الشر خير ورحمة وفضيلة.ومما لا ريب فيه ان فلسفة الزهد في الاسلام، التي تنتظم خيوطها في الكتاب والسنة الزكية، انما تدعو الي الزهد في الدنيا، بمعني الزهد في الشر والرذيلة وما يمت اليهما بصلة وارتباط، وليس الزهد في الساحة الاولي، اي تدعو وتؤكد علي الزهد في الساحة الثانية فحسب.ولكن ثلة من ذوي التفكير العقيم، والجمود الكامل علي النص المقدس قد انكبوا علي مفهوم الزهد علي انه زهد بالدنيا بكل آفاقها وميادينها ومستوياتها.وإذا ما اخذنا بهذا الفهم الخاطئ للزهد لا يبقي مجال أو لا يبقي معنيً لتنفيذ الايات القرآنية المباركة، والاحاديث الوافرة، التي تحث وتدعو الي الاعمال الصالحة بشتي ضروبها وافانينها.إن الفكرة الخاطئة حول الزهد كانت سبباً من الاسباب الرئيسية لتخلف المسلمين في عدة أحقاب تاريخية.ل ـ كشف الاقنعة السياسية. قال الامام زين العابدين صلوات الله عليه من جملة رسالة طويلة: ايها المؤمنون لا يفتننكم الطواغيت واتباعهم، من اهل الرغبة في الدنيا، المائلون اليها، المقبلون عليها وعلي حطامها الهامد، وهشيمها البائد غداً.واحذروا ما حذركم الله منها، وازهدوا فيما زهّدكم الله فيه منها.ولا تركنوا الي ما في هذه الدنيا ركون من اعدَّها داراً وقراراً، وبالله إن لكم مما فيها عليها دليلاً من زينتها، وتصريف ايامها، وتغير انقلابها ومثلاتها، وتلعابها باهلها... انها لترفع الخميل، وتضع الشريف، وتورد النار اقواماً غدا ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمنتبه.وإن الامور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مضلات الفتن، وحوادث البدع، وسنن الجور، وبوائق الزمان، وهيبة السلطان، ووسوسة الشيطان لتثبط القلوب عن نيتها وتذهلها عن موجود الهدي، ومعرفة اهل الحق، إلاّ قليلاً ممن عصم الله جلَّوعزَّ فليس يعرف تصرف ايامها، وتقلّب حالاتها، وعاقبة ضرر فتنتها إلاّ من عصم الله، ونهج سبيل الرشد، وسلك طريق القصد، ثم استعان علي ذلك بالزهد فكرر الفكر، واتعظ بالعبر وازدجر فزهد في عاجل بهجة الدنيا، وتجافي عن لذاتها.إن من المعالم الرئيسة لمعرفة الدنيا الزهدُ فيها.وإن من المعالم الرئيسية للزهد فيها عدم الركون لطواغيتها.وإن من المعالم الرئيسية لعدم الركون لطواغيتها تعرية خططهم، وكشف اقنعتهم، وجهادهم جهاداً كبيرا.فمعرفة الدنيا معرفة صادقة وعميقة تستدعي في نهاية المطاف خوض غمار سياسة إسلامية هادفة وتستلزم الجهاد الكبير.ومن هنا نري أنَّ التدخل في السياسة الاِسلامية، والاشتراك بالجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالي لا يكون باباً مفتوحاً علي مصراعيه، لكل من رغب أو اشتهي الولوج فيه.بل ينبغي أن نستدعي لهما «السياسة والجهاد» من تربّي تربية رسالية صادقة.ومن وسائل هذه التربية:تبصير الاعضاء المرشّحين للسياسة والجهاد بالدنيا، وحثّهم علي الزهد فيها. وإذا كان التبصير بالدنيا والحث علي الزهد، وسيلة ممهّدة للسياسة والجهاد فلابد من ديمومة التربية التبصيرية المذكورة. أعني حتي أثناء خوضهما.إننا نري في تأريخ الاسلام الكثيرين ممن اشترك في السياسة والجهاد الاسلامي، فبرع فيه، واحتلّ المراكز الحساسة من غير أن يكون له نصيب وافر من تربية التبصير المذكورة آنفاً. فحوّل المجري الطبيعي للسياسة والجهاد الي مجري شخصي أو فئوي أو اسري، وحرّف المقاييس الاسلامية وقرعها في الصميم.فيا أيّها الرساليون تيقظوا.م ـ التثقيف الوحدوي: إن الاسلام دين الاستيعاب والاحتضان، لا دين الجفاء والعدوان. وإذا ما اراد الانسان الاعتناق الحقيقي للاسلام فعليه ان يتمثل تطلعاته، وابعاده، واهدافه، ومن الطبيعي سوف يكون حينئذ، رحيب الصدر، وسيع الافق، قوي الكسب، شديد الجاذبية. ينظر الي الاخرين بروح شفافة كريمة معطاء، تمور بالحنان والعطف والتآخي ولكن قد رأينا ـ ويا للاسف العميق ـ من المسلمين من يتعصبون لمذهبهم، اكثر مما يتعصبون لقرآنهم الكريم، وسنة نبيهم(صلي الله عليه وآله وسلم)، وإذ ما رأوا فارقاً بين القرآن والسنة وبين مذهبهم فانهم يؤولون القرآن والسنة وكل شيء لصالح المذهب.ولو اقتصر الامر علي الجهّال لكان الشر اقل، ولكن عدداً غير قليل من الكتاب واصحاب الخلفية العلمية المرموقة سائرون علي هذا المنوال، من حيث يشعرون أو لا يشعرون.فياربِّ هل إلا بك النصر يرتجيويا ربِّ هل الاعليك المعوَّل(72).ولابدَّ لنا ان ننقد انفسنا نحن المسلمين نقداً موضوعياً بناءً فنقول بوضوح ان الثقافة الوحدوية ما بين المسلمين ثقافة ضعيفة ومحدودة، ومن الجدير جداً بالرساليين من ذوي الهمم العالية النهوض بهذا العبء الثقيل (ولا ينهض بالعبء الثقيل إلاّ اهله).ليست الثقافة الوحدوية كتاباً يقرأ مرة واحدة ثم يلقي جانباً بل من الضروري ان تشكل حيّزاً كبيراً من المساحة الثقافية للفرد المسلم.ومن واجباتنا الاساسية ان نبث الاشعاع الوحدوي في احاديثنا ولقاءاتنا ومحاضراتنا وكتبنا ومختلف الوسائل الاعلامية، وان ذلك ليس بالشيء الكثير.والان فلنصغ الي امام من أئمة المسلمين لنستلهم منه شيئاً من الافكار والتطلعات الوحدوية.يقول الامام زين العابدين(عليه السلام): ان عرض لك ابليس لعنه الله بأن لك فضلاً علي احد من اهل القبلة فانظر ان كان اكبر منك فقل: قد سبقني بالايمان، والعمل الصالح فهو خير مني، وان كان اصغر منك فقل: قد سبقته بالمعاصي والذنوب فهو خير مني، وان كان تِربك(73) فقل: انا علي يقين من ذنبي، وفي شك من امره فما ادع يقيني لشكّي.وإن رأيت المسلمين يعظمونك ويوقرونك ويبجلونك، فقل: هذا اخذوا به، وان رأيت منهم جفاءً وانقباضاً، فقل: هذا الذنب احدثته فانك إذا فعلت ذلك سهل الله عليك عيشك، وكثر اصدقاؤك فقلَّ اعداؤك، وفرحت بما يكون من برهم، ولم تأسف علي ما يكون من جفائهم.وقال(عليه السلام): واما حق اهل ملتك عامة فاضمار السلامة ونشر جناح الرحمة والرفق بمسيئهم، وتألفهم، واستصلاحهم، وشكر محسنهم الي نفسه واليك... فعمهم جميعاً بدعوتك، وانصرهم جميعاً بنصرتك، وانزلهم جميعاً منك منازلهم، كبيرهم بمنزلة الوالد، وصغيرهم بمنزلة الولد، واوسطهم بمنزلة الاخ، فمن اتاك تعاهدته بلطف ورحمة. وصل اخاك بما يجب للاخ علي اخيه.ن ـ ضرورة التفاعل مع قضية الامام الحسين بن عليّ(عليهما السلام) في القضية الكبري.إن قضية الامام الحسين انما هي قضية الخط الاسلامي الصاعد قوة وشمولية واصالة وازدهاراً.إن ثورة الامام الشهيد الحسين بن علي(عليهما السلام) انما هي ثورة الكلمات المقاتلة، والافعال الجريئة، والقضية العادلة.لقد روّي الامام الحسين شجرة الاسلام بدمه الزاكي ودماء اهل بيته واصحابه الكرام حتي عادت باسقة، وارفة، معطاء.إن علماء الاسلام ومفكريه الاجلاء ينظرون الي الامام الحسين انه القدوة المثلي في الاستقامة والفضيلة، والمثل الاعلي في التضحية والفداء.لقد علَّم الامام الحسين بن علي(عليهما السلام)



المفكرين علي التضحية من اجل فكرهم،والعلماء علي ان يقرنوا العلم بالعمل،والزهاد علي الزهد بحياة الذل والهوان،والاحرار علي ان يستعبدوا الموت الاحمر،والابطال علي عدم التنازل حين الانفراد بالمعركة،والانسانية علي ان تحترم نفسها امام وحشية الطغاة والمستبدين.إن وحشية السباع بافتراسها، ووحشية الانسان بصلفه وطغيانه وجبروته.* * *ومما لا ريب فيه ان اكبر وافضل تفاعل مع قضية الامام الحسين انما يكمن في الاقتداء بسيرته وهديه بالصورة الشاملة. واما الاقتداء ببعض شؤونه ومنطلقاته فهو من شأن احرار وابطال كثيرين، بل ان عدداً منهم لم يكن يلتقي الامام الحسين(عليه السلام) في الخط والتوجه.فمن اولئك مصعب بن الزبير بن العوام والي العراق من قبل اخيه عبد الله بن الزبير فانه لما خذله العراقيون، وبقي في قلة من الانصار، لم يرضخ لمساومة جيش عبد الملك بن مروان، ولم يشأ ان ينقاد للهوان والتنازل، واشار الي قبر الامام الحسين قائلاً: ما ترك لنا صاحب هذا القبر من عذر، وتمثل بقول سليمان بن قتة.وإن الالي بالطفِّ من آل هاشمتأسوا فسنّوا للكرام التأسياوإذا كان مصعب بن الزبير قد اقتفي اثر الحسين(عليه السلام) من جهة عدم التساوم والخضوع، فان الزعيم الروحي للهند المهاتما غاندي قد اقتفي اثر الحسين واقتدي به من جهة استيعاب المظلومية في سبيل الوصول الي الاهداف السامية. قال غاندي:تعلّمت من الحسين ان اكون مظلوماً لكي انتصر.* * *ونشر مبادئ ثورة كربلاء والدعوة اليها، والدفاع عنها، ودرء الشبهات عنها كل ذلك من التفاعل مع الامام الحسين في قضيته.وبيان مساوئ اعداء الامام الحسين وآثامهم وجرائرهم، كل ذلك من التفاعل مع الامام الحسين في قضيته.وزيارة مرقده(عليه السلام)، والدعوة الي الزيارة، وبذل الاموال الطائلة في سبيل ذلك، من التفاعل مع الامام الحسين في قضيته أيضاً.ولقد ذكرنا في بحث «مع الامام الحسين في الثورة الخالدة» تفصيلات حول مواقف الامام زين العابدين من قضية الامام الحسين وآثاره فيها، وتفاعله العظيم معها.والان نشير الي شيء يسير مما لم نكن ذكرناه في ذلك البحث:قال له مولاه: يا مولاي أما آن لحزنك ان ينقضي؟ فقال(عليه السلام): ويحك ان يعقوب نبي ابن نبي، كان له اثنا عشر ولدا فغيب الله عنه واحداً منهم فبكي حتي ذهب بصره، واحدودب ظهره، وشاب رأسه من الغم، وكان ابنه حيا يرجو لقاءه، فإني رأيت ابي واخي واعمامي وبني اعمامي ثمانية عشر مقتلين، صرعي، تسفي عليهم الريح، فكيف ينقضي حزني وترقأ عيني.لا يوم كيوم الحسين ازدلف اليه ثلاثون الف رجل، يزعمون انهم من هذه الامة، كلّ يتقرب الي الله عزّوجلّ بدمه، وهو بالله يذكرهم فلا يتعظون، حتي قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً.ثم قال: رحم الله عمي العباس فلقد آثر وابلي، وفدي اخاه بنفسه حتي قطعت يداه، فابدله الله عزّوجلّ جناحين يطير بهما مع الملائكة، كما جعل لجعفر بن ابي طالب، وإن للعباس عند الله تبارك وتعالي منزلة، يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة(74).عن ابي عبدالله الصادق(عليه السلام) قال: بكي علي بن الحسين علي ابيه حسين بن علي صلوات الله عليهما عشرين سنة أو اربعين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلاّ بكي علي الحسين، حتي قال له موليً له: جعلت فداك يا ابن رسول الله، اني اخاف عليك ان تكون من الهالكين. قال: (انما اشكو بثي وحزني الي الله واعلم من الله ما لا تعلمون) اني لم اذكر مصرع بني فاطمة الا خنقتني العبرة لذلك(75).قال(عليه السلام) لاحد اصحابه: بلغني يا زائدة(76) انك تزور قبر ابي عبد الله الحسين(عليه السلام) احيانا.فقلت: ان ذلك لكما بلغك.فقال لي: فلماذا تفعل ذلك، ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل احداً علي محبتنا وتفضيلنا، وذكر فضائلنا، والواجب علي هذه الامة من حقنا؟.فقلت: والله ما اريد بذلك إلاّ الله ورسوله، ولا احفل بسخط من سخط، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه.فقال: والله ان ذلك لكذلك؟فقلت: والله ان ذلك لكذلك، يقولها ثلاثا واقولها ثلاثا.فقال: ابشر، ثم ابشر، ثم ابشر الحديث(77).ومما تقدم وغيره يعلم ان الامام زين العابدين(عليه السلام)، اراد ان يدخل ـ بحق ـ قضية الامام الحسين(عليه السلام)، ضمن اساسيات التربية الاسلامية، وفي اطارها الاستراتيجي الذي لا يحول ولا يزول.والحق كل الحق لابدَّ ان يقال:إن ثورة الامام الحسين حد صقيل لكلِّ سيف يُمتشق من اجل العدالة والفضيلة والحريّة والكرامة.إن ثورة الامام الحسين تلقن الشمس المضيئة كيف تزداد تألقاً وضياء.وتعلّم القمر الجميل كيف يزداد نوراً وجمالا.وتربّي السماء الرفيعة كيف تزداد سموّاً وارتفاعاً.

پاورقي





(36) الانعام الاية / 90.



(37) الاحزاب الاية/ 21.



(38) برتراند راسل / التربية والنظام الاجتماعي ص29.



(39) ابن شعبه الحراني / تحف العقول، ص204.



(40) ابن عساكر / تاريخ دمشق في ترجمته(عليه السلام). نسخه مصورة علي النسخة المخطوطة بدمشق.



(41) تحف العقول، ص188.



(42) المماحكة: المنازعة واللجاج. قال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين رضوان الله عليه:ايالقريش أصلحوا ذات بينناوبينكم قد طال حبل التماحكِ



(43) تحف العقول ص194.



(44) تحف العقول، ص200.



(45) المصدر السابق، ص185.



(46) كشف الغمة، ج2 ص103، وحلية الاولياء، ج3 ص140 ط. مصر. الصفد: العطاء.



(47) في نسخة: وانزلتهم.



(48) من الرسالة المعروفة برسالة الحقوق.



(49) راجع بحث سياسة التعامل الاجتماعي (2) من هذا الكتاب.



(50) تاريخ اليعقوبي، ج3 ص37.



(51) سورة الصف / الاية / 2 ـ 3.



(52) من ندبة طويلة. انظر الصحيفة الخامسة السجادية للسيد محسن الامين، دعاء 109، والبحار للمجلسي، 78/ 154، وينابيع المودة للحافظ القندوزي الحنفي، ص273، وكشف الغمة للاربلي، 2 / 309.



(53) البلد الامين للكفعمي ص320، والصحيفة 4 / 29.



(54) الديلمي، اعلام الدين، فصل من كلام علي بن الحسين.



(55) هذا من مشهور كلامه(عليه السلام) ومصادره كثيرة منها: امالي الشيخ المفيد ص207، وارشاد القلوب للديلمي ص25، ومشكاة الانوار لابي الفضل الطبرسي، ص222 ط. النجف.



(56) الشبراوي، الاتحاف بحب الاشراف، ص50، وابن الصباغ المالكي، الفصول المهمة، ص77، وابو نعيم، حلية الاولياء 3 / 184.



(57) السيد هاشم البحراني / البرهان في تفسير القرآن ج3 ص956.



(58) الحشر/ الاية 7.



(59) سورة الكهف / الاية 103 ـ 104.



(60) انظر تفصيل كلام الامام(عليه السلام) في بحث الاغراض الادبية ـ الخطب.



(61) الصدوق، الخصال ص24.



(62) رجال الكشي ص111 ط. النجف.



(63) المجلسي، بحار الانوار 1: 89 ط. ايران.



(64) انظر التفصيلات في بحث «حركة الرسائل السياسية».



(65) الانشقاق / الاية: 6.



(66) الديلمي، ارشاد القلوب ج1 ص71.



(67) سورة الانعام / الاية 68.



(68) سورة الاسراء/ الاية 36.



(69) سورة الاسراء / الاية 36.



(70) ابن منظور، مختصر تاريخ دمشق: 17 / 249.



(71) حثيثاً: سريعاً.



(72) البيت للكميت بن زيد الاسدي.



(73) تِربُك: من وُلد معك.



(74) الشيخ الصدوق، الامالي / ص277.



(75) الشيخ جعفر بن محمد بن قولويه، كامل الزيارات ص107 المطبعة المرتضوية / النجف.



(76) يُذكر انه زائدة بن قدامة الثقفي من اصحاب الامامين زين العابدين والباقر(عليهما السلام).



(77) كامل الزيارات ـ الملحق ـ الحقه بعض تلاميذ المؤلف رحمه الله تعالي ص260.