بازگشت

علي زين العابدين رؤيةٌ في الخط السياسي


المقدمة



اذا عرفت الاسلام معرفة واسعة فاحصة، فسوف لا تستغرب من ذلك العالم الكبير المتقشف، الذي ما برح يصوم النهار، ويقوم ناشئة الليل، وهي اشد وطأً وأقوم قيلا، حتي لقب بذي الثفنات، وأدهش الخافقين بعبادته وزهده وروحانيته. اقول: لا نستغرب منه إذا ما رأيناه علَماً من اعلام السياسة، ورجالاتها الافذاذ.



لقد استطاع علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) ان يجمع بين الشؤون، الروحية والمنطلقات السياسية، جمعاً لا يخامره التعسف ولا يشوبه الريب. فهو العابد المتهجد، الزاهد، الخاشع، الاواب. وهو المربّي المقاوم للظلم والاستبداد، والسند القوي للمستضعفين، ليشهد العالم ان الاسلام:



دين الروحية والعقيدة



ودين القيادة والسياسة



فلا فصل بين العبادة والسياسة في الاسلام، بل هما وحدة متكاملة بمنزلة الروح والجسد. هذا اذا فهمنا الاسلام فهماً موضوعياً بعيداً عن مخططات الاستعمار والامبريالية ومصالح المستغلين.



يا ويل الذين لا يفهمون الاسلام او لا يريدون ان يفهموه الاّ من خلال العاطلين المتبطّلين والفئات الغافلة عما يراد بها بمنأيً عن السياسة والنظم الحيوية الرائدة لاسلامنا العظيم.



يا ويل الذين لا يفهمون الاسلام أو لا يريدون أن يفهموه إلاّ من خلال جهول أو حقود أو كل متكبر جبار لا يؤمن بيوم الحساب.



يا ويل الذين لا يفهمون الاسلام أو لا يريدون أن يفهموه إلاّ من خلال ذلك التطبيق الشائن الابتر للدول التي تدعي الاسلام، والاسلام منها بريء.



* * *



من اسرار سياسة الامام علي زين العابدين(عليه السلام) انه ذلك الانسان الذي تكنّ له الجماهير كل اجلال وإكبار وحب عميق، ولا أدلّ علي ذلك من قصة الامواج البشرية التي ارتادت بيت الله الحرام والتي ما اِن رأت علي بن الحسين(عليه السلام) يريد ان يشق طريقه حتي انفرجت له وافترقت، فكان كل فرق كالطود العظيم، من غير اتفاق سابق ومن دون امر صادر لها في الوقت الذي كان فيه هشام بن عبدالملك مع موكبه الرسمي محتفظاً بموطئ قدم له منتظراً ان يخف الزحام ليؤدي مناسك الحج.



ومن اسرار سياسة علي زين العابدين(عليه السلام) انه المتمكن من الضمير الشعبي حتي في حالة انتهاج المواقف الصلبة والحدّية، وانه الموقّر المهيب وإن توشح باللين والتواضع، وهذا هو السحر الحلال في السياسة والمجتمع.



ومن اسرار سياسة علي زين العابدين(عليه السلام) انه قام بالمنجزات الكبيرة بعيداً عن الوسائل الاعلامية. ولكن الوسائل الاعلامية ما فتأت تكرر ذكره في محافلها وتمجده طوعاً اوكرهاً. ولابدّ ان يكون الامام زين العابدين(عليه السلام) شاعراً بهذا المعني الذي قد ورد في احدي الابتهالات الدينية الرفيعة المستوي: وكم من ثناء جميل لست اهلاً له نشرته.



ما تمتاز به سياسته الفضلي انها تستند الي قاعدة فكرية وقانونية عظمي تكاد ان تكون منقطعة النظير إذْ انه الاوحديّ من علماء عصره استلهاماً للفكر الاسلامي واستيعاباً لقواعد التشريع.



من براعة سياسة علي زين العابدين(عليه السلام) انه لم يكن منصرفاً الي ا لسياسة كل الانصراف، وانما كانت السياسة شأنا من شؤونه لا اكثر ومع هذا فقد حقق من المكاسب السياسية ما يدهش الذين انصرفوا اليها انصرافاً تاماً وكانت شغلهم الشاغل طيلة الحياة من ذوي العبقرية السياسية، والاضطلاع، والجد، وقوة الاحتمال.



اذا كان بعض مهرة القادة يفرضه العدو والصديق علي الحق، فان الامام زين العابدين(عليه السلام) فرضه الحق علي الصديق والعدو. ويا رُبَّ راكع للحق يجعله الحق شمساً في كبد السماء لا يراها إلاّ من رفع الرأس اليها.



* * *



ان المؤلفات حول الامام علي زين العابدين(عليه السلام) التي تتحدث عن حياته وشخصيته وسلوكه العام قليلة جداً واما التي تتحدث عن خصوص سياسته فليس لها وجود. لذا جاء هذا الكتاب ـ باذن الله تعالي ـ محاولة لملء فراغ في المكتبة الاسلامية، وسد ثغرة من ثغرات السياسة والتاريخ.



ان منهجنا في البحوث عن الامام زين العابدين(عليه السلام) قائم علي كتابة بحوث كثيرة وعلي مختلف الاصعدة فيما يتعلق به تتضمن فيما تتضمن : سياسته، تفسيره للقرآن الكريم، انشطته الادبية وغير ذلك، ثم قمنا بعملية انتزاعية للبحوث التي تتعلق بخطه السياسي، فجاءت في كتاب مستقل.. وهكذا صنعنا بالنسبة للبحوث الاخري. طبعاً مع اضافات وتنقيحات لاصل البحوث الواقعة في الاطار العام.



لقد ضمّ الكتاب عن سياسة زين العابدين مواضيع مثل:



مع الحسين في الثورة الخالدة.



موقفه من القيادة السياسية.



سياسة تحرير العبيد.



توجيه العلماء.



المنعطفات السياسية في ادعية الامام زين العابدين(عليه السلام).



حركة الرسائل السياسية، وغيرها.



اي اننا اردنا ان نعرف خطه السياسي من ثنايا هذه المواضيع التي هي مصاديق او ملامح للخط.



ان الخط السياسي للامام زين العابدين(عليه السلام) هو خط الاسلام بلا ريب، بيد ان للخط السياسي في الاسلام شُعباً وميادين كثيرة قد اقتصر منها الامام زين العابدين(عليه السلام) علي ما يوافق الملابسات، والظروف السياسية، والاجتماعية، مع فرضه وادخاله جملة من الاراء والمواقف علي الملابسات والظروف.



لم تكن سياسة الامام زين العابدين(عليه السلام) سياسة غامضة فحسب، بل غامضة جداً وعليها الف ستار وستار من التغطية والتمويه التي خلقها الامام زين العابدين(عليه السلام) نفسه، فقد وضع لمسات خطه السياسي بما ينسجم مع الظروف القاهرة، والاهوال المحيطة ويتناسب وحدّتها، وشدة توترها.



ان هذه هي العلة في عدم انكشاف خطه السياسي الي الان، حتي اعتقد الناس عامة بان لا سياسة له معللين ذلك بعدم امكانية إتاحة فرصة للعمل السياسي، فان الظروف السياسية الضاغطة والقاسية التي اكتنفت حياة قوي المعارضة السياسية وواجهتها بشدة وعنف قد لوّحت بالعصا الغليظة لاقل افراد المعارضة، اذاً فما يكون مصير القائد المؤمل؟.



واذا ما كُشفت خطوط سياسة ما، وشُخّص الكثيرون من رموز المعارضة، فان الدقة المتناهية لسياسة الامام زين العابدين(عليه السلام) أبت إلاّ ان تكون لغزاً من الالغاز، بل اشد خفاءً وتمويهاً. حتي ان القيادة السياسية علي الرغم من عمليات الرصد والترقب ما استطاعت التوصل الي اكتشافها. ولعلك قد سمعت بالجفرة الهيروغليفية التي لم تكن يُعار لها اهمية، ولم يكن يظن أن لها مفاداً ومعنيً حتي اكتشف اسرارها شبوليون، فاذا بالمعاني تنهال عليه وهكذا كانت سياسة الامام زين العابدين.



فهلمَّ اليّ لنسير معاً في مجاهيل السياسة، واصبر نفسك معي فكأننا قد توصلنا الي حل العقدة وكشف اللغز وعشنا في رحاب سياسة الامام زين العابدين(عليه السلام).



(ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين).



محمود البغدادي