بازگشت

مقدمة


دعاء مكارم الأخلاق نموذجا

يحصر جمهور الباحثين الغربيين دور الدين في نطاق فردي بحث، و يعتبرونه علاقة فردية بين الانسان و معتقده، يكون الفرد فيها هو الأساس و المنطلق، و تكون التنمية الروحية و الأخلاقية الفردية هي هدف الدين الأول و الأخير، و ليس للدين - في نظرهم - أي دور في بناء المجتمع و توجيه حركته العامة.

و قد كانت الانحرافات و الاساءات الكنسية في استخدم الشعار الديني علي مر العصور و خصوصا في الفترة التي سبقت النهضة الصناعية الأوربية، سببا رئيسا في تكوين هذا الاتجاه الفكري لدي الغربيين، منطلقين من تاريخ ملي ء بالمعاناة الاجتماعية التي سببها تدخل الكنيسة المنحرفة في شؤون المجتمع اداريا و سياسيا و اقتصاديا و ثقافيا، مما ولد ردة فعل عنيفة ضد هذا التدخل، و ضد الكنيسة و تعاليمها لدي متطرفي الغربين. فتعالت أصوات المطالبين باقصاء الكنيسة عن الدولة و شؤون المجتمع، و حصر دورها - في أحسن الأحوال - في الطقوس العبادية ذات البعد الفردي البحت.

و قد ساعدت علي تعميق الفجوة بين الدين و الحياة العامة الغربية مقولات جوفاء منها ادعاء تحمل المسيح لذنوب المذنبين، و غسل كل الجرائم و الذنوب بمجرد الاعتراف بها في الكنيسة، و التضاد المزعوم بين الدين و العلوم الحديثة.

كل هذا شكل جوا اجتماعيا غربيا رافضا للدين كنظام اجتماعي، و حاصرا لدوره في أضيق حدود الفردية.

و يقابل هذا التصور الغربي للدين، منهج الاسلام الذي يطرح الدين نظاما للحياة بكل أبعادها الفردية و الاجتماعية و علي صعيد الفكر و السلوك و ادارة كل جوانب الحياة. فليس الدين الحق مجرد طقوس عبادية يمارسها الفرد، ثم يواصل حياته الاجتماعية و العامة بعيدا عن أي توجيه ديني أو منهج ينظم الحياة.

ففي الوقت الذي تشكل فيه الممارسة العبادية بمعناها الأخص أساسا لبناء علاقة الانسان بخالقه الواحد (انني انا الله لا اله الا أنا فاعبدني و أقم الصلاة لذكري) (طه / 14) يشكل السلوك العملي الشامل للانسان القيمة الحقيقة لهذا الانسان (و قل اعملوا فسيري الله عملك و رسوله و المؤمنون..) (التوبة / 105)، و يكتسب العمل قيمته من ماهيته كونه نافعا أو ضارا بغض النظر عن حجمه، فالكيفية هي أساس التقييم و ليست الكمية (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، و من يعمل مثقال ذرة شرا يره) (الزلزلة / 8 - 7)

و قد مر المجتمع الاسلامي في العصر الأموي و ما بعده بظروف طغت فيها الحياة المادية الشهوانية نتيجة لانغماس الحاكمين باللهو و الفساد، مما أدي الي عزوف أكثر المتدينين عن الحياة العامة و انعزالهم عنها، و نشوء بدايات التصوف كرد فعل للحياة المادية الماجنة، و كتعبير عن العجز عن اصلاح المجتمع الفاسد، مما جعل كفة التصوف الفري للدين تغلب و لو مؤقتا الفهم الاسلامي الشامل للدين.

و كانت الحقبة السياسة و الاجتماعية التي عاصرها الامام علي بن الحسين زين العابدين السجاد عليه السلام من أشد الفترات ظلاما في تاريخ الاسلام، فقد استبد الحكم الأموي حتي قتل سبط رسول الله (ص) و ذريته و أهل بيته و أصحابه في جريمة مأساوية لم و لن يشهد التاريخ لها مثيلا، و تجاهر الحاكمون بكل أنواع المنكرات و الموبقات، حتي أن الطاغية يزيد كان يقول مستشهدا بقول الكافر ابن الزبعري: (لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء و لا وحي نزل).

و شهد الامام السجاد عليه السلام بنفسه واقعة الطف بكل مآسيها و لم يقتلوه لأنه كان عليلا و قتذاك، ثم اقتيد أسيرا مع عائلة الامام الحسين عليه السلام من كربلاء الي الكوفة حيث عبيدالله بن زياد عامل يزيد، و منها الي الشام حيث عاصمة بني أمية، بكل ما في تلك الأحداث ممن مصائب و محن. لكنه لم يخضع للظالم و لم يستسلم أمام طغيانه اذ يسجل التاريخ مواقف بطولية للامام السجاد عليه السلام أمام يزيد في مجلس ملكه لا يمكن تصور صدورها من أسير مقيد بالسلاسل أمام سلطان جائر سفاح، و من تلك المواقف خطبته عليه السلام في مجلس يزيد و التي أبان فيها الحقيقة للحاضرين و فضح يزيد و حكمه الجائر.

و الذي يهمنا في هذا البحث هو اظهار حقيقة أن الامام السجاد عليه السلام لم يركن الي زاوية العبادة الفردية تاركا الظلم و الظالمين يعيثون في الأرض فسادا، بل اتخذ وسائل اقتضتها ظروف تلك الحقبة المظلمة، لبث تعاليم الرسالة الاسلامية الشاملة بكل أبعادها و جوانبها عن طريق الدعاء الذي لم يكن بوسع الحكم الظالم أن يمنعه بحكم تستره بلبوس ديني مهما كان مهلهلا. فكان الدعاء السجادي سفرا خالد حافلا بجوانب مشرقة في التربية الفردية و العائلية و الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و العسكرية و الادارية.

و لناخذ دعاء مكارم الأخلاق و هو الدعاء العشرين في الصحيفة السجادية مثالا لنري ما فيه من تربية اجتماعية شاملة متناسقة أروع تناسق مع التربية الفردية السليمة.