بازگشت

الصحيفة السجادية مرجعية شرعية


ان عقد مؤتمر باسم الصحيفة السجادية للامام علي بن الحسين عليه السلام بحد ذاته حدث و مبادرة، حدث لأنه جاء في وقت تستعيد فيه الأمة الاسلامية مرجعيتها و انتماءها، و لم تدرج العادة أن يعقد مؤتمر لكتاب بل المتعارف أن يعقد لتراث أو الامام أو شخصية، و مبادرة لأن الأمة ما زالت تعيش مرحلة ضبابية فكريا و تاريخيا و لم تستعد وعيها بعد، حيث أنها ما زالت تحت تأثير موجة انعدام الوعي التي لفها و أثقلها تراكم كبير من تاريخ عمل علي تزييف و تغييب الكثير من كنوزه و نفائسه.

لهذا كان عنوان المؤتمر «الصحيفة السجادية» التي تعتبر أحد أهم معالم شخصية الامام زين العابدين عليه السلام، و من هنا يتصدر السؤال لماذا لم يعقد المؤتمر بعنوان الامام السجاد عليه السلام؟ و بالتالي يكون البحث عن الصحيفة السجادية كأحد الجوانب المهمة في حياته عليه السلام.

هذه الاشكالية نحاول أن نجيب عنها بأن المسألة ليست داخلة في مجرد بحث في مجموعة نتاج سلوك امام في مسار حياته الطبيعة، و من هنا نري أن القرآن الكريم لم يكن مجرد مقال أو خطاب يعبر عن تأريخ مرحلة في نزوله و أسبابه، بل القرآن الكريم بالاضافة الي أنه عبر مراحل النزول في تأسيس تشريع، و شكل اجابة عن طبيعة المشكلات التي واجهت الرسول (ص)، شكل مرجعية و كان دليلا اعجازيا لهذه المرجعية التي لم يكن لأحد قدرة علي مجاراتها أو أن يدخل فيها شراكة، و هذا ما عبر عنه الاذعان الذي حدث عندما اعتبرت القوي المعارضة للرسول (ص) أن القرآن ليس من سنخ فعل البشر، و هكذا سقطت كل المرجعيات القبلية و الأدبية و العرفية أمام مرجعية الرسول (ص) المدعومة بالنص القرآني لتدمج في مرجعية الرسالة و الرسول.

و بعد هذه المرحلة من حياة الرسول (ص) أعادت المرجعية للتجاذب بعد الرسول فكان لابد للمرجعية السمتخلفة أن تملك الدليل المتميز بنص يؤيد هذا التمايز فكان الامام علي عليه السلام و كان نهج البلاغة ما وصل منه و ما لم يصل الينا دليل تمايز لمرجعية الامام حتي للخلفاء في صدر الاسلام كما عبر عنه الخلفاء (ما عشت لمعضلة ليس لها أبوالحسن، و لولا علي لهلك عمر) و رجوع الناس في الفتنة العثمانية الي علي عليه السلام و رجوع عثمان له، و لكن لا رأي لمن لا يطاع.

و في ظل الانقلاب من نظام الخلافة الي نظام الملك، حدث الفراغ في المرجعية سواء بالشخص أو بالمضمون، بما يعني الشخص المؤيد بالنصوص المتميزة المعبرة عن شخصية متميزة، فكان لابد من سد هذا الفراغ الذي كاد أن يسقط الاسلام بشكل لا يستقيم بعده، فكان أن تصدي الامام زين العابدين عليه السلام، لهذه المسألة، و كانت الصحيفة السجادية، و رسالة الحقوق، و بوادر تأسيس أسس مدرسة الحديث، هي المحاولة التي أعادت الأمل، و كانت الصحيفة السجادية تقوم بهذا الدور في ظل عودة الكتلة البشرية المعارضة للاسلام، و التي فقدت مرجعيتها في الجاهلية، و فقدت موقعيتها العددية، الا أنها كانت لا تزال تمتلك الكثير من الموقعية النفسية في مجتمع تشكل حديثا لم تتعمق فيه عقيدة الايمان و الفهم و التدين بالمرجعية التي زحفت بقوة و سرعة تجتاح المجتمع و تصبغ كل نواحيه، الا أن هذه الصبغة لم تتجذر في كل فصائل المجتمع الجديد الذي عاد ليظهر حقيقة لونه القديم.

و هكذا كان بعد الرسول (ص) كما كان قبله أي قلة من آمن و ترسخت فيه مرجعية الرسول (ص)، و الكثير من خرج من تحت القناع و بالتالي عادت الخطوط الي مرجعياتها، محمد (ص) مقابل أبوسفيان، و علي عليه السلام، مقابل معاوية، و السجاد عليه السلام مقابل خط الملك الأموي، أي الجاهلية المؤسلمة. و الخطورة هنا أشد لأن ما قبل الرسول (ص) و معه كان موقفا واضحا بين قبول القرآن أو رفضه، قبول التنزيل أو رفضه، و الحرب بعد الرسول (ص) كانت بين قرآن منزل و قرآن مأول، و لذلك كان نهج البلاغة يشكل مرجعية معجزة لعلي عليه السلام الذي شكل حماية للقرآن المنزل: «قاتلت علي التنزيل و قاتل علي التأويل»، ثم استمرت المعركة علي المرجعية فأدت الي غلبة الجاهلية المؤسلمة بشهادة الامام الحسين عليه السلام و خلو الساحة.

و مع خذلان الأمة لمرجعيتها «الحسن و الحسين امامان قاما أم قعدا» مع بيان الامام الحسين عليه السلام: «مثلي لا يبايع مثله»، مع كل هذا وصلت الأمة الي حالة انعدام الوزن، و غيبوبة وسط عاصفة من غبار الحيرة و الخوف و الرهبة و الرغبة، و لم يعد أمام هذه العاصفة الهوجاء مرجعية شرعية، بل أصبحت الأمة واقعة تحت سلطة السيف و الخوف و القتل، و بدأ الناس يعشرون أنهم في حالة فراغ، و أخذوا يترقبون مرجعية حقيقية، لا مرجعية مفروضة بالسيف و مثقلة بالدماء و الفجور و الجور و الانحراف، مرجعية تعيد الذاكرة للنبي (ص) و أصحابه النجباء (رض)، مرجعية القرآن و العترة عليهم السلام، فكان الامام زين العابدين عليه السلام يطل مع صحيفته السجادية، ليعيد القرآن المغيب الي قلوب الناس و عقولهم، ليعيد الناس الي حالة من الوعي و الرشد.

و هكذا كانت النصوص التي رسمت للأمة طريقا واضح المعالم نير الجوانب، و كان قبسا وجد فيه الباحثون عن طريق الله، و أفقد الملك الأموي من مصداقيته، لأن أدني مقارنية كانت تزيد الفارق بين مرجعة تنطلق من القرآن و أخري من الجاهلية، و هكذا كان فعل زين العابدين عليه السلام و قوله و تقريره، سنة تطابق فيها النص و العمل الي حد الاعجاز، في الوقت الذي انفضم فيه النص و العمل عند المرجعية الغاصبة المرهونة، و أصبح الامام زين العابدين عليه السلام الامام الأسير و الجسم المغيب، بحاجة الي امام و جسم أسهل في الحركة و أقدر علي التفلت من قيود الحديد و أبواب السجون، فكانت الصحيفة السجادية هي امام للناس و ميزان لهم في التقييم بين منهج يدعو الي الله قولا و عملا، و بين من تستر بالنصوص يرفعها شعارا و لباسا دون فعله و سلوكه، مما زادهم عريا في كل حركة كان النص يكشف عن المزيد من عوراتهم و قبحهم و خبث سريرتهم، و لذلك كانت الأمة تنظر الي الصحيفة كمرجع حاكم معبر عما تريده الأمة أن يتغلل في كل كيان شخصيتها.

و من هذه المقدمة ندخل الي تفاصيل الصحيفةالسجادية في مداليلها و أسلوبها، فنري فيها وحدة متكاملة، و أجزاء متتالية و مشروعا لا يعني التنوع فيه التفرق، بل يعني أن كل جزء فيه يسير الي الكل، و الكل مبني علي أجزائه فكرا، و عقائد تربية، و اجتماع تنظيم، و شمول في سحر بلاغة، و سلاسلة أسلوب، و رقة دعاء، و قداسة تبتل، و ازدلاف دون تزلف،و تقرب دون تملق، و تذلل دون ذلة، و أنفة ايمان دون اعجاب، يغرف من القرآن، و الصحيفة السجادية بهذا التنوع المتناسق هي اعجاز في فصاحتها و بلاغتها، كما كان القرآن الكريم معجزة الرسول (ص) بالنسبة لانتساب النص القرآني الي الله عزوجل، بحيث جعل القرآن النبي (ص) فوق كل مخلوق.

و كذلك كان لنهج البلاغة و الصحيفة السجادية مقاربة حيث عبر أهل المعرفة أن ذلك دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوق، و هذا يرسم لنا معادلة في المرجعية الملزمة التي يوقف عندها كحد من حدود الله (جل جلاله)، فالقرآن نهج النبي (ص) و مسار مرجعيته، في مقابل نهج الجاهلية، و بالتالي تغلب نهج النبي (ص) و ليس غلبة سيف، بل تفكك أنصار الجاهلية عن مرجعيتهم و التفافهم حول مرجعية النبي (ص)، و لكن هذه المرجعية من يمثلها بعد النبي فكان علي عليه السلام يمثل مرجعية كاملة و متطابقة، في الوقت الذي تسربت المرجعية البائدة بالتدريج الي أن أصبحت بين علي عليه السلام و معاوية، ثم بين الحسين عليه السلام و يزيد، ثم حدث النزاع الظاهري بحيث لم يعد الأموية أن تزرع وحدانيتها في الميدان، و أن تفرض نفسها علي المجتمع و تزعم أنها هي وريثة مرجعية القرآن الكريم مع مرجعيتها السياسية.

و هنا كان دور الامام السجاد عليه السلام بعد أن أصبح غير ممكن لديه أن يسترد الموقعية السياسية، فقام بمواجهة الاحتفاظ بالمرجعية الفكرية و الدينية للأمة و كانت الصحيفة السجادية، و أسلوب الدعاء فيها هو السلاح المتاح لديه، و بالتالي أعادت الصحيفة السجادية ذهن الأمة و فكرها و روحها، و ظاهرة تعبدها، الي أصولها الحقيقية، و بذلك أوجد الامام من خلال الصحيفة انفصاما دام طويلا في تاريخ المسيرة الاسلامية، بحيث أصبحت معالم مدرسة أهل البيت بكل نواحيها هي مرجعية الأمة، و لم تستطع السلطة الحاكمة أن تطرح نفسها مرجعية دينية أو ثقافية، و فيما بعد انحسرت السلطة الحاكمة بعنوان الاسلام.

و اليوم نري أن ما تركه الأئمة من خط في المرجعية الاسلامية سواء كانت هذه الخوط تحت عنوان التسنن أو عنوان التشيع لأننا كلما عدنا الي الوراء نري أن خط التسنن الفقهي و الاسلامي يتقاطع مع خط التشيع عند الأئمة و أكثر وصلة التقاء كانت عند الامام زين العابدين عليه السلام.

اليوم نحن بحاجة أن نعيد هذه المرجعية عبر ارثها و غني كنوزها الي مسرح الحياة العملية مع بذل الجهد الجبار لتصفيتها من كل ما لحق بها من شوائب و تخريب درسا و تحقيقا، لتعود قيادة أهل البيت لتكون سفينة النجاة لمن ركبها و صراط حق و نور و هداية للخروج من نفق الظلام الذي أدخلنا به جهل التعصب و حقد الأعداء، لنصل من داخل النفق الي الباب المنير، و نطل علي العالم بمشروعنا الحضاري، نطرحه في حلبة السباق و المواجهة مع كل الحضارات الموهومة.