بازگشت

في تعريف زين العابدين، أو (الذات العبادة)


اذا تفصح (الذات) عن ماهية وجودها، تتبدي نصوص الدعاء في (الصحيفة) ألق فجر في يوم ربيعي. فالركن الركين هو ذاك الانتماء الي مبعث الحق. ألم تنجل بدور العرفان المحمدي في سنة عطرة، و في امتداد مشهدي، أين منه المسك يضوع بسبحات أهل البيت، و يمتلك الأريج، كله، في ثوب مشي فيه الحق متعاليا الا عن السجود، مترفعا الا عن تسايل دمعة المظلوم، فالذات (السجادة) في ما تعي: ما نتج من قوة رحمانية، أو ما تحررت فيه القوة الباعثة من نسبية المخلوق، و ما نتج، و من ثم، من تبصر المادة، أو ما كان نتيجة الباعث العقلاني البشري، فالقوتان، كلتاهما، تكشفان النقاب عن زمانين اثنين:

- زمان التجربة الشخصية في حدها النسبي، و ما قضي فيه (السجاد) نهاره و ليله، و سني عمره، في معترك المجتمع ذاك.

- و الزمان المنكف عن المواقيت المعلومة، المتحرر من لعبة الحساب اليومي المعهود.. انه الزمان الذي يعكس اختمار المعرفة و توهجها المستديم، من الارث المتواصل، الفياض بألف باء الرحمنة و قطرات الحق علي شاطي اليقين.

لقد اغتذت الذات (السجادة) في زمانها بينبوعي الانتماء و الالتزام، فعلائق الينبوع الأول مدد ثر بين ذات تنهل صعدا من ذوات أهل البيت حتي مرتقي النبوة، و هو الفياض - أبدا - بقويم السلوك علي الذات (العبادة) في ارث محفوظ فتجلي المنهل صفاء اختيار، و تمثل نضج معرفة سرعان ما تحولت معطيات الحس فيه، و التجربة لديه، الي صور عقلية. لقد عنيت ذلك النضج الذي تمثل عاليا في ما انبسط في (الصحيفة) من تطور للمعاني، و الحكم، و الاستدلال. و كان، مما، هو ضاف بعد، انتخاب الموضوع في اقتدار لافت، و توصيف الرؤية في البلاغ البين، عبر الدعاء المتواصل مرفوعا من الذات، من أجل و الآخر، و هو دعاء و ابتهال و رجاء في حرارة قول خاشع مستديم: (اللهم)

و أما الينبوع الثاني، أو الالتزام فشوق عمل أوجبته (الذات المتعبدة) علي نفسها، فكان ذاك أمرا لا يفارقها، و كانت منه البصيرة النفاذة التي تنظر الي ما تتضمنه الأحكام الاجتماعية و الأخلاقية بعين الجد و الرصانة و وفاء العهد، أو لنقل ضرورة المحافظة علي حق الأمانة في تأدية الرسالة.

بلي، فالذات السجادة أدركت بعد الالتزام في فضائه الاجتماعي، مما ماز هذا الالتزام من سواه، فهو التزام لصيق الاخلاص للآخرين، حميم الصدق، شديد الاستقامة، و هو عين الاهتمام بمشاغل الحاضر، و قلق الجماعة المؤمنة من حوله. و لسوف يبلغ الحد في كل هذا حدود تجليات الأمانة في شكلها المحض. ثم، أليست تلك هي الخصائص الكفيلة بتعديل الحاضر في سبيل بناء مستقبل الصورة: الغاية.

و الغاية، في هذا المقام، تعكس الطبيعة المثالية، بدءا، فهي - هنا، غاية مطلقة واحدة. و في الآن نفسه، هي علة مزدوجة الاتجاه، جراء ما كانت تقوم به (الذات السجادة) من فعل قصدي و اختياري للآخر. و قد أري ذاك القصد، و ذاك الاختيار الي ذلك الازدواجي المتجه،أو العطاء الغائي: الغاية - الفائدة، الصادر عن الفعل الاختياري و سواه، و الغاية - الغرض، الصادرة عن الاختيار، وحده.

هنا، لم لا نقل بتعدد الغايات الشاغلة وجود هذه الذات العبادة؟ ألم يكن من خصائصها احترام الكرامة الانسانية في عين شخصها، و في أشخاص (الآخر)؟

لذا، أليست هي ذلك الموجود العاقل الذي جهد في تصور الغايات؟. في هذا المناخ الخلقي في بعده الانساني الاجتماعي، انشغل (الموجود العاقل) في مفهوم (الآخر) ليصوغ منه معادلة الحق و الصدق:

- فكانت جهود الذات (السجادة) تتوالي في اعادة تشكيل الواقع الاجتماعي كي يبلغ مرحلتين عصيتين في الفعل الانساني: مرحلة بلوغ الواقع درجة المطابقة للحكم الاسلامي من حيث الشريعة نصا و تطبيقا، و مرحلة ابلاغ ما في ذاك الحكم للواقع المتمثل في اختلاف الخلق علي الجوهر و الشكل. و لكم كان نقيض ذلك بالغ الشأو عسرا، و انتشارا، في ظل الحكم الأموي، فالباطل نقيض الحق يعدو في كل اتجاه، و الكذب نقيض الصدق يتفاقم الي حد انقلاب المفاهيم و القيم و اختلال المعابير بالجملة.

و بقدر ما كان الواقع مخلخلا بفعل سلوك السلطان، كانت الذات (العبادة) تعيش نعمة اطمئنان النفس الي ما تفعل، و الي ما تعتقد، و الي ما تدعو اليه.

و بمثل ما كان هذا القدر من الاطمئنان كبيرا، كان اليقين يستند الي أسباب ايمانية عميقة، تجعله يجوز الذات الي ذوات (الآخر) في فعل مجاهدة، تحمل هذا (الآخر) الي علم المؤمنين ارادة تلمس أسرار الحقائق الدينية... أو العيش، كما تعيش الذات العبادة في ظلال العرفان.

لكن مجال العلاقة، المشروط بحدوده كان عصي الاستجابة في غالب الأحيان، فكان يطغي اليأس علي كثير من الخلق، و ينقطع لديهم الرجاء، و يدلهم الليل في وجه كل ساع، الا عن تلكم الذات التي جازت الذات فآثرت معالي الأمور تحقيقا للتقدم الذي يشترط طلب الأفضل، لا الرضا بالواقع.

فنحن، اذن، أمام حالتين: حالة (الآخر) الذي يستجيب لطبيعة فيه، استقت مفاهيمها من الواقع المعاش، فعاش نوسان الملازمة،فهو حينا يستجيب للذات السجادة، و هو حينا آخر يبتعد، و ينفك، فيعيش، اذ ذاك الاستلزام، لا التلازم. أما حالة (الذات العبادة) فما غابت شمس أفكارها - لحظة عن (الآخر) فهي تعيش - بحق التلازم، و تستغرق في وجوده، فباعث المحبة يوجب الاصرار علي التغيير و نشدان الصورة: الغاية، و هي بهذا الالتزام، من ثم، تصوغ معاني الولاء و الاخلاص و الأمانة.