بازگشت

المدينة الفاضلة في رسالة الحقوق للامام زين العابدين


لننتقل الي مدينة فاضلة أخري، لم تشرب مبادئها من أفلاطون، و لا من نبع أرضي غربي أو غير غربي، انما شربت من تعاليم السماء، و استمدت مبادئها من كتاب الله الكريم، و أحاديث رسوله الكريم (ص).

و خير مثال علي هذه المدينة الفاضلة ما نجده في رسالة الامام.

زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام المشهورة ب (رسالة الحقوق)، و المسجلة في مجموعة (الصحيفة السجادية).

و قبل أن نقف علي تفاصيل هذه المدينة الفاضلة المسلمة نود أن نؤكد من جديد أن مبادئها الأصيلة مستمدة من القرآن الكريم و أحاديث رسول الله محمد بن عبدالله (ص)، و من سيرة الصحابة الأكارم و شمائل آل بيت رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين. و لا شي ء خارج هذا الاطار الشريف.

أقام الامام زين العابدين عليه السلام مدينته الفاضلة علي ثلاثة محاور، محور يتصل بالله سبحانه و تعالي، و ثان يتصل بذات الانسان، و ثالث يتصل بالآخرين.

المحور الأول: فهو حق الله علي عباده. و حقه تعالي يقوم في المقام الأول علي الايمان بوجوده، و بوحدانيته، و مع الايمان به: الايمان بملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و القضاء خيره و شره منه تعالي، و أن يعبد المرء الله كأنه يراه أمامه، فان لم يره فليعتقد أن الله يراه و يطلع عليه، كمن يطلع علي جميع أفعاله و أقواله و علي خفايا نواياه، و يعلم سره و نجواه، لا تخفي عليه خافية في الأرض و لا في السماء.

المحور الثاني: فهو حق الذات، و ذات الانسان تقوم علي أساسين: روحي، و مادي. الجانب الروحي: فهو وجوب تهذيب النفس، و تزكيتها، و تطويعها لتكون نفسا راضية مرضية، و لا يكون لها ذلك الا بترويضها علي الطاعات، و الذكر، و دوام العبادة: و الوقوف عند حدود الأمر و النهي.

و يفصل الامام زين العابدين عليه السلام حق الطاعات و العبادات، و يشرح كيف تكون الصلاة مثالية، مقبولة، مهذبة لصاحبها، و رافعة لمقامه. يقول رضي الله عنه في حق الصلاة: «فأما حق الصلاة:

فأن تعلم أنها وفادة الي الله، و أنك قائم بها بين يدي الله، فاذا علمت ذلك كنت خليقا أن تقوم فيها مقام الذليل، الراغب، الراهب، الخائف، الراجي، المسكين، المتضرع، المعظم من قام بين يديه بالسكون و الاطراق، و خشوع الأطراف، و لين الجناح، و حسن المناجاة له في نفسه، و الطلب اليه في فكاك رقبتك التي أحاطت بها خطيئتك، و استهلكتها ذنوبك».

و أما الجانب المادي: فيشمل حواس الانسان من سمع و بصر و شم و ذوق و لمس، كما يشمل البطن و الفرج و أعضاء شتي أخري. و قد رسم الامام عليه السلام حق كل حاسة، و واجب الانسان نحوها.

فمن حق العين - مثلا - المحافظة عليها، و حمايتها من كل أذي، و أن تغضها عن المحارم، و تنظر بها الي ما يرضي الله و الخلق الكريم، و يكون محل اعتبار.

و من حق السمع تنزيهه عن كل ما لا يرضاه القلب، و تعويده علي كل ما يكسب خلقا كريما، فالسمع طريق الي القلب، و هو وسيلة الكلام الطيب أو الفاحش.

و من حق البطن ألا يجعله المرء وعاء لقليل أو كثير من الحرام، حتي الحلال فواجب الاقتصاد به و ضبطه في حالتي الجوع و الشبع فالشبع قد ينتهي الي التخم و المكسلة و القعود عن كل بر و كرم.

و من الفرج حفظه مما لا يحل للمرء، و الاستعانة علي ذلك بغض البصر، و كثرة ذكر الموت و حساب الله يوم القيامة، و الاستعانة بالله علي العصمة و الاعتصام...

و هكذا الذات البشرية لها حق الحياة، فاذا ما انتهك المرء هذا الحق لها، فانتحر، أو قتل نفسه، أو قتل غيره فكأنما قتل الناس جميعا، و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.

و المحور الثالث: فيشمل الوجود الخارجي من أدناه الي أقصاه، لا يترك صغيرة و لا كبيرة الا و يتحدث عن حقوقها و واجباتها، انه يشمل الكون كله، و ما يحيط بهذا المخلوق الذي اسمه «الانسان».

و اذا أردنا بعض تفصيل ذكرنا أن يشمل الحاكم السلطان و المحكوم من بين الانسان، فيفصل حق السلطان علي الناس، و حق الناس علي السلطان؛ ثم يتدرج الي طبقة العلماء و المتعلمين، فيفصل حقوقهم و واجباتهم، ثم يأتي الي المشير و المستشار، و يمر علي الأسرة، فيتحدث عن الأم و الأب، و الزوج و الزوجة، و الابن و البنت، و الأخ و الأخبت، و الخادم و المملوك، و ينتقل الي الصديق و الجليس، و الصاحب و الشريك، و الخصم، و المدعي و المدعي عليه، و الظالم و المظلوم، و الحاكم و المحكوم، و الصغير و الكبير، و الغني و الفقير، و الجار القريب و البعيد، و المؤذن و الامام، و الخطيب و الخادم في المسجد، و المسلم و الذمي، و الكتابي و المعاهد... و هكذا يستمر في استعراض أفراد المجتمع، لا يغادر فيهم صغيرة و لا كبيرة الا أحصاها و ذكرها مفصلا حقوقها و واجباتها.

ان المخلوقات جميعا في هذه المدينة الفاضلة متساوون، لا فضل لأبيض علي أسود، و لا لرجل علي امرأة و لا لقوي علي ضعيف الا بالتقوي، و الايمان، و الاحسانه، و المعاملة، و القيام بما أمر الله، و الانتهاء عما نهي لا طبقية، و لا عنصرية، و لا عرقية، و لا فروق... الكل متساوون، و الكل محاسبون بميزان واحد، و الكل عبيد لرب واحد، والكل مسؤول عما استرعي و جعل تحت جناحه.

ليس العمل و التعب لمصحلة جماعة معينة كما كان الشأن في جمهورية أفلاطون، و ليس الشعب عبيدا يكدون و يكدحون ليوفروا الهناء للفلاسفة، و الطعام للجند و العساكر.

الملكية الفردية حق لكل انسان في مدينة زين العابدين عليه السلام، لا يتعدي عليها حاكم، و لو كان أميرالمؤمنين، و الحرمات مصونة، و الأعراض محفوظة، و الانسان مقيد بحلاله، و محاسب ان مد عينيه الي ما متع الله غيره من نساء أو حرمات.

هذا مجتمع قائم علي العدل، لا ظالم و لا مظلوم، لا كبير و لا صغير، في هذا المجتمع «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها».

و أما حق الجار فحفظه غائبا، و كرامته شاهدا، و نصرته و معونته في الحالين معا.. شهودا و غيابا.. لا تتبع له عورة، و لا تبحث له عن سوء لتعرفها، فان عرفتها منه عن غير ارادة منك و لا تكلف، كنت لما علمت حصنا حصينا، و سترا ستيرا، لو بحثت الأسنة عنه ضميرا لم تصل اليه لا نطوائه عليه، لا تتسمع عليه من حيث لا يعلم، لا تسلمه عند شديدة، و لا تحسده عند نعمة،تقيل عثرته، و تغفر زلته، و لا تدخر حلمك عنه اذا جهل عليك، و لا تحرج أن تكون سلما له، تردد عنه لسان الشتيمة، و تبطل فيه كيد حامل النصيحة، و تعاشره معاشرة كريمة.

و بعد فهل هناك شبه بين جمهورية أفلاطون و بين هذه المدينة المسلمة؟ بل هل يمكن أن نقول: تلك مدينة فاضلة و هذه مدينة فاضلة؟ أو أن العقل السليم يرفض هذه المقابلة، و يعترف بان مدينة اليونان لم تكن فاضلة، و انما كانت مدينة ظالمة، و أن مدينة الامام زين العابدين عليه السلام هي مدينة الاسلام و المسلمين، و المدينة الفاضلة التي رضي الله عنها و أرضي أهلها...