بازگشت

الامر (3)


نقف أولا عند جانب اللغة، و نعيد النظر فيه، لخطر أثره في (الصحيفة). اذ تكاد الثروة اللغوية تبدو في غاية اتساعها. و الاحاطة بمفرداتها في الموضوع المطروح تقرب من الكمال. يقول في دعاء الاستسقاء: «اللهم اسقنا الغيث، و انشر علينا رحمتك بغيثك المغدق من السحاب، المنساق لنبات أرضك، المونق في جميع الآفاق.... تحيي به ما قد مات، و ترد به ما قد فات، و تخرج به ما هو آت، و توسع به في الأقوات، سحابا متراكما هنيئا مريئا طبقا مجللا [1] غير ملث [2] و دقه [3] و لا خلب برقه.... اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريعا ممرعا [4] عريضا واسعا غزيرا ترد به النهيض [5] و تجبر به المهيض» [6] .

فمن هذه الناحية، أعني ما يتصل بمفردات اللغة وفقهها، و اتساع ثروته اللغوية في الاجمال، يمكن (الصحيفة) أن تكون صحيفة يتعلم فيها الانسان استعمال هذه المفردات استعمالا صحيفا في أماكنها، مع ما يماثلها أو يناقضها، فمن هنا تعد (الصحيفة) أيضا كتابا بالغ الامتياز في تعليم اللغة بأسلوب حي. يقول: «اللهم و أبدلني من بغضة أهل الشنآن المحبة، و من حسد أهل البغي المودة، و من ظنة أهل الصلاح الثقة، و من عداوة الأذنين الولاية، و من عقوق ذوي الأرحام المبرة، و من خذلان الأقربين النصرة و من حب المدارين تصحيح المقة، و من رد الملابسين كرم العشرة، و من مرارة خوف الظالمين حلاوة الأمنة [7] ». و يقول في دفع كيد الأعداء: «و كم من باغ بغاني بمكائده... و أضبأ [8] الي اضباء السبع لطريدته... و هو يظهرلي بشاشة الملق، و ينتظرني علي شدة الحنق» [9] .

نعم قد نلحظ غزارة المترادف في (الصحيفة)، فسببه استيفاء التعبير عن الحال الانفعالية، يردفه، دون شك، اتساع الثروة اللغوي: «اللهم... و من أرادني بسوء فاصرفه عني، و ادحر عني مكره، وادرأ عني شره، ورد كيده في نحره، و اجعل بين يديه سدا حتي تعمي عني بصره، و تصم عن ذكري سمعه، و تقفل دون اخطاري قلبه، و تخرس عني لسانه، و تقمع رأسه، و تذل عزه، و تكسر جبروته، و تذل رقبته، و تفسخ كبره، و تؤمنني من جميع ضره و شره و غمزه و لمزه و حسده و عداوته و حبائله و مصائده و رجله و خيله...» [10] .

و قد تتوارد المترادفات بصورة تلقائية في بعض المواقف، مثل موقف التذلل للخالق، كأنه لا يجد ما ينفذ به الي ما يحس من هوان النفس امام الخالق الا تكرار المترادف: «فاني عبدك المسكين المستكين الضعيف الضرير الحقير المهين الفقير الخائف المستجير» [11] .

و مثل هذا البناء المتساوق في لغة الدعاء يكشف عما كان الامام يعاني من العداوة و الكيد، في المرحلة السياسة الصعبة التي كان يعديها. فقد بلغ به الضيق مما يعاني ما جعله يستنفد هذا القدر من المخزون المترادف.

و من هنا تكون جمل الدعاء و الابتهال في معظم (الصحيفة)، انشائية لأنها - كما قلنا - تعبر عن أحوال انفعالية حارة، شديدة الحرارة، حتي ان الجمل التقريرية فيها لا تصفو للتقرير وحده. و من هنا يكثر النداء بأداته العارية أو النداء المدغوم، و الالتماس، و الرجاء، في الأفعال، حتي يعم صفحات (الصحيفة) كلها تقريبا، علي نحو ما يقول في احدي صحائفها، علي غير اختيار مني: «اللهم توجني بالكفاية: و سمني حسن الولاية، وهب لي صدق الهداية، و لا تفتني بالسعة، و امنحني حسن الدعة، و لا تجعل عيشي كدا كدا و لا ترد دعائي علي ردا، فاني لا أجعل لك ضدا و لا أدعو معك ندا» [12] .

و نلحظ، هنا تساوي الفواصل (آخر كلمة في الجملة) في جمل الدعاء، و تماثل موسيقاها. و هو - مع تقطيع جمل الدعاء في مواقف الطلب، و طولها النسبي في غيرها. يودي الغاية من تعميق أثر الدعاء في النفس. و يكاد هذا أن يكون سمة آل البيت في الدعاء، لخصوبة أنفسهم، و غزارة معانيهم، و قدرتهم علي صياغتها صياغة لها خصوصيتها من حرارة الفكر و طواعية اللغة. و هذا الذي يجعل منهم أصحاب أسلوب خاص، يجمع، الي الوضوح من معرفة ما يريدون، حسن التعبير عما يستفزهم من ألوان المعاناة، علي اختلاف ألوانها، و تباعد أطرافها النفسية أحيانا. كأن يقول في (المعونة علي قضاء الدين): «اللهم... و احجبني عن السرف و الازدياد، و قومني بالبذل و الاقتصاد و علمني حسن التقدير، و اقبضني بلطفك عن التبذير، و أجر من أسباب الحلال أرزاقي، و وجه في أبواب البر انفاقي، وازو عني من المال ما يحدث لي مخيلة [13] أو تأديا الي بغي، أو ما أتعقب منه طغيانا» [14] .

فاذا ذكرنا أن (الصحيفة)، في غرض من أعم أغراضها و أهمها، تتوجه الي تربية الانسان علي خلق القرآن و النبوة، بما يجعلها أيضا كتابا في التربية و التوجيه، من خلال كونها كتابا في التبتل والابتهال، أدركنا أثر اللغة في بلوغ هذا الغرض، من حيث بلوغ التأثير، و تحسين النفوذ، و تقوية الادراك، و ارهاف الفهم.

و الذي أريد أن أزيده بيانا هنا: أن التعبير، في هذه الأدعية، مقدود علي قد الفكرة أو قد الاحساس، يسعهما بوضوح، علي سعة المضمون و دقته و انفراج أطرافه و تباعدها أحيانا، كأن يقول في الرضا بالقضاء: «اللهم طيب بقضائك نفسي، و وسع بمواقع حكمك صدري، وهب لي الثقة لأقر معها بأن قضاءك لم يجر الا بالخيرة [15] و اجعل شكري لك علي ما زويت عني أوفر من شكري اياك علي ما خولتني. و اعصمني من أن أظن بذي عدم خساسة، أو أظن بصاحب ثروة فضلا، فان الشريف من شرفته طاعتك، و العزيز من أعزته عبادتك، فصل علي محمد و آله، و متعنا بثروة لا تنفد، و أيدنا بعز لا يفقد، و اسرحنا في ملك الأبد....» [16] . فالجملة في الدعاء، كما نري، تطول نسيبا و تقصر حسب ما تقتضيه الحال، و لكن النفس دائما لا ينقطع فيها و لا يتردد!

و تتضح طواعية هذه الاستجابة اللغوية في مجالات الوصف بما يجعل الموصوف يكبر، و يعمق، و يتلون، و يتحرك، و يستفيض، و يتسع لألوان النفس الداعية و دقائق احساسها بالأشياء و معرفتها يأوصافها في جملة أحوالها: «اللهم اسقنا سقيا تسيل منه الظراب، و تملأ منه الجباب، و تفجر به الأنهار، و تنبت به الأشجار، و ترخص به الأسعار في جميع الأمصار، و تنعش به البهائم و الخلق، و تكمل لنا به طيبات الرزق، و تنبت لنا به الزرع، و تدر به الضرع، و تزيدنا به قوة الي قوتنا» [17] . و مثل هذا يبدو أيضا في معرفته العميقة بصفات الخير و الجمال في النفس، و معرفته بما يكدرها و يشوهها من صفات الشر، بما ينتهي الي معرفة بالنفس الانسانية في أحوالها المختلفة: «اللهم... أغنني و أوسع علي في رزقك، و لا تفتني بالنظر، و أعزني و لا تبتلني بالكبر، و عبدني لك و لا تفسد عبادتي بالعجب. و أجر للناس علي يدي الخير، و لا تمحقه بالمن، وهب لي معالي الأخلاق و اعصمني من الفخر» [18] .

فهذا، و مثله كثير في الدعوات، هو الذي كاد أن يجعل آداب الاسلام كلها مختزنة فيها، و يجعل من (الصحيفة)، كما قلنا، كتابا يجمع رؤوس تعاليم الاسلام، الي جانب كونها معجما في اللغة و أساليبها و طرق بيانها. و من يرجع الي دعائه في يوم عرفه [19] .

يجد أنه استوفي، أو كاد، حاجات كل مسلم من دنياه و آخرته، علي السواء، و يجد اللغة و سعت التعبير عن هذه الحاجات كلها. و في هذا كفاية.


پاورقي

[1] طبق السحاب الجو: غشاه و غطاه. و الطبق: السحاب الذي يغطي الجو و يغشيه. المجلل: السحاب الذي يجلل الأرض بالمطر.

[2] ألث المطر: دام أياما لا يقلع.

[3] المطر كله شديده و ضعيفه.

[4] كثير الخير و الخصب.

[5] أنهضت الريح السحاب: ساقته و حملته.

[6] الصحيفة: دعاؤه في الاستسقاء، دعا ء رقم / 19 /

[7] الأمن.

[8] أضبا علي الشي ء اضباء: سكت عليه و كتمه، و ضبأ: استخفي.

[9] الصحيفة: دعاء رقم / 49 / في دفع كيد الأعداء.

[10] الصحيفة: دعاء رقم / 23 / في طلب العافية.

[11] الصحيفة: دعاؤه اذا أحرنه أمر، دعاء رقم / 21 /.

[12] الصحيفة: دعاء رقم / 20 / في مكارم الأخلاق.

[13] يريد الخيلاء: الكبر و العجب.

[14] الصحيفة دعاء رقم / 30 / في قضاء الدين.

[15] الاختيار.

[16] الصحيفة دعاء رقم / 35 / في الرضا بالقضاء.

[17] الصحيفة: دعاء رقم / 19 / في طلب الاستسقاء.

[18] الصحيفة: دعاء رقم / 20 / في مكارم الأخلاق.

[19] الصحيفة: دعا ء رقم / 47 / دعاء يوم عرفة.