بازگشت

الامر (2)


نشأ الامام اذن في مدرسة النبوة التي نشأ فيها الأئمة من آل البيت و أبناؤهم، و ذووهم، في المرحلة التي بدأ النثر العربي فيها يستقر علي ما خلفه القرآن الكريم من أساليب الصياغة، بموسيقاها الساطعة، و بالصورة و أدوارتها، و الخطاب و تنوع الأداء، فيه.

ثم ان الامام امتاز بها تمتاز به النفوس المختارة من خصوبة الفكر و قوة النفوذ في كل ما تقع عليه العين، أو يمتلكه الحس، أو يدركه الحدس، و من حرارة الروح وسعة الاحاطة بالثقافة الاسلامية التي تلقاها في الوسط النبوي الذي نشأ فيه، و علي المثال الرفيع المتناقل عن آل البيت، في عصور الاسلام الأولي. و يكشف امتلاكه أدوات التعبير عن ثروة لغوية واسعة استغلت، في أدعيته و نجواه و ابتهالاته، أحسن استغلال، بما يتناسب مع طبيعة الدعاء و حرارة النجوي.

و يعجب الانسان، و هو يعيد النظر في الصحيفة، (و هو العجب الذي يدركه حين يستمع الي دعوات آل البيت علي الاطلاق): من أين تتوجه نفوسه في تشقيق المعاني و ألوان الصياغات و المشاعر، و هم يجولون في دائرة واحدة هي دائرة التبتل و الابتهال و الدعاء، كأنهم جبلوا، جراء عمق الالتزام بمعاني الرسالة التي حملوها، من تراب خاص، و سقوا من ماء خاص، من رقة الحزن، و عمق الاحساس بجلال الألوهة و التذلل لها، و انخلاع القلب لهيبتها: «هأنذا يا رب مطروح بين يديك، أنا الذي أوقرت الخطايا ظهره، و أنا الذي أفنت الذنوب عمره...هل أنت، يا الهي، راحم من دعاك فأبلغ في الدعاء؟ أم أنت غافر لمن بكاك فأسرع في البكاء؟ أم أنت متجاوز عمن عفر لك وجهه تذللا؟ أم أنت مغن من شكا اليك فقره توكلا؟.... الهي لا تعرض عني و قد أقبلت اليك، و لا تحرمني و قد رغبت اليك، و لا تجبهني بالرد و قد انتصبت بين يديك... فاعف عني. قد تري يا الهي فيض دمعي من خيفتك، و وجيب قلبي من خشيتك، و انتفاض جوارحي من هيبتك...» [1] .«يا الهي! لو بكيت اليك حتي تسقط أشفار عيني، و انتحبت حتي ينقطع صوتي، و قمت لك حتي تنتشر قدماي، و ركعت لك حتي ينخلع صلبي، و سجدت لك حت تنفقأ حدقتاي، و أكلت تراب الأرض طول عمري، و شربت ماء الرماد آخر دهري، و ذكرتك في خلال ذلك حتي يكل لساني، ثم لم أرفع طرفي الي آفاق السماء استحياء منك، ما استوجبت بذلك محو سيئة واحدة من سيئاتي...» [2] .

فمن أين يجي ء أثر هذا الدعاء الواسع العميق في النفس؟ من عمق الصدق فيه؟ من غني الوجدان الديني؟ من تشقيق المواقف و ألوان الصور بعضها من بعض؟ من حنان النفس ورقتها؟ من قدرة التمثل لكل موقف و لحاجة في التعبير عنه، من شفافية اللغة وحسية لصورة وتنوعها؟ من انتصاب جبروت الله و هيبته في ظلها؟ أم تراه يجي ء من ذوب هذه العناصر كلها و استجابة اللغة لها، في أدائها، استجابة تبدو قريبة من الفطرة النبوية التي فطر عليها آل البيت و ذووه، و شهروا بها؟

علي أن أوضح عناصر التأثير، تجي ء من خصوبة النفس التي تبدو في امتداد نفس التعبير في الدائرة الواحدة، و القدرة علي استخراج أدق الأحاسيس فيها، و من حرارة الروح، و غني الفكر بمعاني الرسالة، ثم في روعة الأداء اللغوي الواضح في غير تكلف و لا اصطناع، و التطلع الدائم فيه الي المثال اللغوي الرفيع الذي أرساه القرآن الكريم، و من تجسيد المعاني و الأحاسيس تجسيدا يجعل الحس يمتلي ء بها.


پاورقي

[1] الصيحفة السجادية: دعاؤه في الاستقالة، دعاء رقم / 16 /.

[2] المرجع السابق نفسه.