بازگشت

الامام السجاد و الصحيفة السجادية


و نحن اليوم مجتمعون هنا، لنتعرف علي الامام عليه السلام من خلال كلامه المرسوم علي صفحات الصحيفة السجادية، هذا الأثر العظيم الخالد، فالامام يحدثنا منها علنا نخرج متحولين في نظرتنا الي الامام، فنعود عاقدين العزم علي اعادة موقفنا من فقهه و تراثه، و خصوصا هذا الكتاب (الصحيفة السجادية) و رواته العظماء الذين حملوه، و الطائفة التي اعتنت به، و احتضنته حتي اليوم، لنقف علي كنز من المعرفة، طالما أخفي عن الأبصار و حجب عن البصائر، و لم تتمكن الأمة الاسلامية الكريمة من الاستفادة التامة من لآلئه.

و نشكر الله الجليل، علي النعمة التي خص أمتنا بها بين الأمم، فجعل أهل البيت النبوي رحمة لأولها و آخرها، فالفضل في هذا يعود - بعد منشئه و مبدعه الامام السجاد زين العابدن عليه السلام، الي الأئمة العظام من أولاده، الذين نقلوا هذه الصحيفة، و واظبوا عل تداولها، و هم: الامام محمد الباقر بن علي بن السحين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، و أخيه الشهيد زيد، حيث أودعا ما أملاه أبوهما الامام عليهما، لدي أولادهما، مؤكدين علي الحفاظ، علي النسخ، مهتمين بذلك غاية الاهتمام، حذرا من وقعها في أيدي أعداء العلم و الدين، من الطغاة الظالمين الذين يحاولون ابقاء الأمة في الجهل، و منعهم من التعرف علي المخلصين من العلماء الواعين، الي حد المنع من الكتابة و التدوين، و المنع من نقل الحديث، حتي تعطيل مراكز العلم و الثقافة، و هجر محاور الفقه و المعرفة.

في مثل تلك الظروف الحرجة، قام رواة هذا الكنز و حملته الأمناء بحفظه و صيانته، فتداولته الصدور المطمئنة و القلوب الآمنة و الأيدي الوثيقة، حتي بلغنا - و الحمدلله رب العالمين - بأوثق الطرق المتضافرة، و تواترت نسخه الثمينة النفيسة، و انتشر نصه المقدس كانتشار النور؛ و بلغ الي أكثر الأمم بترجمته الي لغاتهم، فعلينا و نحن نعيش عصر أساليب الاعلام السريعة و السهلة، أن نبادر الي نشره و تعريفه الي العالم بأفضل شكل، ليكون دليلا آخر علي عظمة الفكر الاسلامي و جدارته بالخلود، و ليتروي عالم القرن الحادي و العشرين، من معارفه العذبة الروية، و ليتزود عالم القرن الحادي و العشرين، من معارفه العذبة الروية، و ليتزود من ثماره اليانعة الغنية، و ليكون تفنيدا للمزاعم الظالمة، و التهم الباطلة، التي تكليها العلمانية و أنصارها، ضد الاسلام و معارفه و تراثه و أحكامه في الاجتماع و الاقتصاد و الوجود و الكون.

ان فكرة انشاء الصحيفة السجادية في القرن الأول الهجري، (السادس الميلادي)، في مثل بيئة الامام السجاد عليه السلام بظروفه الخاصة، حيث كان متهما من قبل أجهزة الدولة، لأنه الوريث الوحيد لكل أمجاد صاحب الرسالة، جده الرسول المصطفي (ص)، و صاحب الولاية علي المرتضي عليه السلام و أبيه الشهيد في كربلاء، و الظروف العامة، حيث تتولي منع الثقافة و التثقيف، و منع الكتابة و التدوين، و منع الفقاهة و التحديث. و المطاردة للامام الي حد المراقبة و الجلب و التقييد.

ان ظهور هذا النص، و بهذه القوة في المحتوي و الأداء لهو من الميزات التي يجعله في صدر قوائم الروائع البشرية الخالدة، و هو من دواعي فخر المسلمين و اعتزازهم، حيث يملكون مثله منذ ذلك التاريخ، و لئن مرت فترات مظلمة في تاريخ الأمة، سودت صحائف منه، فكتمت مثل هذه الذخائر، و عتمت علي مثل هذه الأمجاد و المفاخر، و حكمت الطائفية المقيتة في النفوس بأغراضها و أحقادها، و نشرت المخاوف، بدل المعارف، فمنعت من نشر هذا التراث العظيم، الذي يشهد لعظمة المسلمين و مجدهم و علو كعبهم، في الثقافة و الفكر، قبل خمسة عشر قرنا.

فان من مخلفات تلك الظلمات، هي المظالم التي يتولي كبرها اليوم - فئات مظللة، مغفلة، تثير الشبهة و الشك في وجه الحق و الحقيقة، بما أدي الي جهل هذا الجيل بهذا النص، و اغفاله من قبل المهتمين بالأدب و الفكر، مع توجههم الي الأقل منه في القدم، و ما لا يبلغ شأوه في الغرم، من النصوص المروية عن مجهولي الهوية، و الشخصية من أصحاب الأهواء، فلماذا يحدث هذا؟أما هذا الرائعة فهي من لسان عربي صميم، من نسل أفصح من نطق بالضاد، و أليق من اكتسي الأمجاد، من خصه الله بوحيه فبه فاه، و بالبلاغة حلاه، و بمكارم الأخلاق حباه، باعتباره الصادع بالشريعة الغراء، و الواسطة بين الأرض و السماء، و المطلع علي أسرار الخليقة، و الواقف علي المجاز و الحقيقة من بني هاشم الذين قال فيهم علي أميرالمؤمنين عليه السلام: «و انا لأمراء الكلام، و فينا تنشبت عروقه، و علينا تهدلت غصونه» [1] ،انه حفيد علي بن أبي طالب عليه السلام مشرع الفصاحة و موردها، و منشأ البلاغة و مولدها، من كلامه عليه مسحة من العلم الالهي، و فيه عبقة من الكلام النبوي.

من قد سمعناه يقول في خطبته من علي منبر الجامع بدمشق: «أعطينا: السماحة و الفصاحة». و هنا نحن نجد البلاغة و الفصاحة بارزة متلألئة، هنا في هذا النص العظيم، و لذا لا يعز أن نصدق ما نقله الحافظ، الشهير ابن شهر آشوب: (ذكر عند بليغ في البصرة، فصاحة الصحيفة الكاملة، خذوا عني حتي أملي عليكم و أخذ القلم، و أطرق، فما رفع رأسه حتي مات) [2] .

و كذلك أن نجد شهادات أهل العصر علي قلتها و عزتها انما هي لا تعبر الا عن جزء من الحقيقة العظيمة التي نملكها [3] ، و الحديث الي القلب ينبع مع القلب، و دعاء الامام بايجاءاته كافة ينطلق من الأعماق، فهو يخترق كل الأعماق ليستقربها، معلما شاخصا هادفا يهدي سواء السبيل، ليس في هذا الحديث مبالغة الرواة، و لا عنت الكتاب، و لا مساومة التاريخ. بل فيه الصورة الناطقة المعبرة عن حقائق الأشياء، دون تزيد علي الواقع الصحيح، و لا افتراءات علي الحقيقة الحرة، بل هو الروح الخالص المستنبط، من واقع الأحداث.

الامام السجاد زين العابدين عليه السلام الذي احتل في الاسلام مقاما عظيما حتي قال فيه الشافعي امام المذهب: (انه أفقه أهل البيت)، بل قال الزهري: (ما رأيت أحدا كان أفقه منه) [4] .

و بعد اجماع المسلمين، بكل فرقهم و طوائفهم، علي عظمة الامام عليه السلام، و الاعتراف باستحقاقه للمقام السامي الذي يحتله، ليس لأحد المناقشة في ذلك فهو عند الامامية الرابع من أئمتهم المعصومين المنصوص عليهم، و كذلك هو عند الشيعة الاسماعيلية، و عند قدماء الشيعة الزيدية، و هو عند متأخريهم من دعاة الأئمة، و أما عند عامة أهل السنة، فلم يخالف فيه أحد منهم، بل قال الذهبي - أكبر مؤرخيهم - ما نصه: (السيد الامام، زين العابدين و كان له جلالة عجيبة و حق له ذلك، فقد كان أهلا للامامة العظيمة: لشرفه و سؤوده، و علمه، و تألهه، و كمال عقله) [5] .

و قد عبر الجاحظ عن هذا الاجماع، اذ قال: «علي بن الحسين لم أر الخارجي في أمره الا كالشيعي، و لم أر الشيعي الا كالمعتزلي، و لم أر المعتزلي الا كالعامي، و لم أر العامي الا كالخاصي، و لم أر أحدا يتماري في تفضيله، و يشك في تقديمه» [6] .

و أما التشكيك في سند هذا النص فهود جهد العاجز، و اللجوء الي مثل هذا السلاح ذي الصدأ لا يمضي في مثل هذا النص، لأنه يروي عند طوائف الشيعة كلها: الامامية و الاسماعيلية و الزيدية، بشكل مستفيض، بل متواتر الطرق الي الأئمة الباقر و الصادق و الي زيد الشهيد و ابنه يحيي عليهم السلام، بحيث لا يرتاب فيه أحد منهم، و تتعدد الأسانيد، و تتضخم كلما مر الزمان و بعد، فتتأكد النسبة و تتكاثف الأسانيد، و تتعاضد الطرق، بحيث قل له نظير في النصوص الأخري، و قد أسند اليه أصحاب الفهارس و المشخيات، و عدوه من الكتب التي عليها المعول، و اليها المرجع. ثم استندوا اليها في الحكم علي الأدعية التي تتلي بعنوان التعبد في المناسبات و الأيام باستحباب التلاوة، مع اطلاق النسبة الي الامام عليه السلام، و هذا أمر لا يقومون به الا بعد التأكد و الالتزام بصحة النسبة لما هو مسلم عندنا، من ورعهم و احتياطهم و تدقيقهم في مثل ذلك في أبواب الفقه.

و أما من لم يقنع بمثل ذلك، و يكون من منهجه رفضه، بل يتذرع بدعوي عدم الثبوت عنده، و عدم وصوله اليه بطرقه الخاصة.

فالجواب أولا: انها دعوي مخالفة للأعراف المسلمة، اذ المفروض ثبوت ذلك عند أهله و أصحابه، و قطعيته بالنسبة الي الواقفين عليه، و من علم حجة علي من لم يعلم، و من حفظه حجة علي من لم يحفظ خصوصا، في ما صدر في بيئة معينة، فان الملاك ثبوت الصادر عند أهل تلك البيئة، كالأمور الحادثة في بلدة معينة، فان اللازم ثبوت حدوثها عند أهل البلدة، و علمهم بها، و شهادتهم عليها و ليس للآخرين انكارها و نفيها، بدعوي عدم ثبوتها عندهم، و لو بني علي مثل هذه الدعوي، و التزم بلزوم ثبوت كل شي ء للانسان بنفسه حتي يقتنع به، لما استقر كثير من الأمور، و لا ضطربت المسلمات، و تعذرت الحقائق، و هذا أمر يدفعه الوجدان و ينكره كل انسان، فالعقلاء يعترفون بثبوت الأمور المسلمة عند أهلها، و المقبولة عند ذوي شأنها، كأمور التاريخ و حوادثه، و البلدان و شؤونها.

و ثانيا: ان الحاجة الي السند، انما هو من أجل جواز نسبة الأحكام الي الشارع الكريم، و هذا انما يختص بالأمور التعبدية المأخوذة من الشارع، و ليس كل أمر بحاجة الي مثل ذلك، فالانشائيات، التي هي طلبات، و اظهار لمرادات نفسية ليست بحاجة الي اسناد، بل أمرها دائر بين الوجود و العدم، لا الصدق و الكذب اللذين هما عماد الاحتياج الي الاسناد.

فالأمر الانشائي، هو ايقاع موجود و حق ثابت، أو معدوم و باطل و مفقود، و لو نقل مثله و لم يمنع منه دليل عقلي أو عرفي و عادي، فهو ممكن، و لو وافقه العقل و الوجدان و الواقع، مثل مضامين الصحيفة، حيث تحتوي التوقعات و الرغبات النابغة من نفس الداعي، و لم يخل أحد من السامعين و الناظرين من مثلها، فليس بحاجة الي الاسناد.

و ثالثا: ان نسخ الصحيفة هي بالكثرة و الوفرة العظيمة، و منها النسخ العريقة في القدم، و ينتهي بعضها الي القرن الخامس و الرابع، و المزدانة بشارات التعظيم و القداسة، حيث اعتني بكتابتها كبار الخطاطين. و زخرفها الفنانون بأجل الزخارف، و كل ذلك يدل علي العناية الفائقة التي كان أصحابها يولونها لهذه الصحيفة.

و اذا اتفقت النسخ - كلها، بلا استثناء - و أجمعت علي نسبة النص الي الامام السجاد زين العابدين عليه السلام قولا و احدا، و لم يكن هناك، و لا مورد لا في داخل هذه النسخ كلها، و لا في خارجها، بل و لا وقع في خلد أحد من الناس، احتمال النسبة الي غير الامام!

أفلا يكون هذا كله مقنعا بصحة النسبة الي الامام و عدم الريب فيها. بينما الاسناد انما يؤثر وجوده و يحتاج الي المناقشة فيه، في ما لو كان هناك ما يعارض وجود الحديث، و يخالفه و يدفعه.

و لو جمعنا هذه الأمور بعضها الي بعض، وقنعنا بثبوتها، طول القرون الماضية، أفلا يكون و اعزا للخصوص لهذه الحقيقة؟ و أخيرا: فلو ركزنا علي النص، و نقده داخليا، فلم نجد فيه بعد قوة الأداء و جماله الفني في مجال الأدب العربي، و بعد رصانة المتن و المدلول و الكمال المعنوي في مجال الفكر الاسلامي، فلم نقف علي ما يتطرق اليه بخدشة في اللفظ، أو المعني، أفهل تبقي حاجة الي اثبات آخر، بينما يكتفي في الاثبات بالأقل القليل من هذه الأدلة.

و لو استعرضنا أهمية هذا النص العظيم من حيث الأسلوب و الأداء، و من حيث الأهداف و المضمون، حتي تتبين مكانته الفنية و الفكرية، و يثبت بذلك امتيازه الذي يفرض علينا تقديسه، ثم استعرضنا شهادات الخبراء في الأدب العربي الذين أذعنوا لهذا النص بالعظمة، و تواضعوا أمامه بالخضوع و الاكبار، و التمجيد و استقصينا الجهود المبذولة حول الصحيفة و الانجازات العلمية، و التراثية، و الفنية التي قدمها العلماء و المؤلفون، و الفنانون لتخليد هذه الرائعة الخالدة، لطال بنا المقام.

فنحن نجد في الأساليب هذه الأمثلة:


پاورقي

[1] نهج البلاغة الخطبة 233.

[2] مناقب آل ابي طالب 241 / 2.

[3] كماقال الدكتور الشيخ محمدحسين علي الصغير - أستاذ الدراسات القرآنية و البلاغية و النقدية في جامعة الكوفة في النجف الأشرف في كتابه الامام زين العابدين ص 29.

[4] لا حظ، جهاد الامام السجاد عليه السلام ص 114.

[5] سير أعلام النبلاء.

[6] جهاد الامام السجاد عليه السلام ص 35 - 34.